لم يدخل الفكر التأويلي في الخطاب العربي المعاصر إلا في السنوات الأخيرة، بعد أن هيمنت عليه مقاربات ومفاهيم النظرية النقدية الاجتماعية في نسختها الماركسية خصوصًا، والنظرية التاريخية الإبستمولوجية وبصفة خاصة تحليلية القطيعة والانفصال.
في المشاريع الأولى التي بلورها المفكرون العرب لقراءة التراث، هيمنت النظرية النقدية الاجتماعية وإبستمولوجيات القطيعة، بما برز لدى طيب تزيني، وحسين مروة، ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون، وغيرهم.
ولقد تميز حسن حنفي منذ السبعينيات بإدخال المفاهيم التأويلية المستمدة من الفلسفة الظاهراتية وإن حصرها في تحليلية الشعور ضمن مقاربة ثقافية اجتماعية تتأسس على الوظائف الأيديولوجية الإيجابية لعملية تأويل النص.
ولقد سلك تلميذه نصر حامد أبو زيد هذا المسلك التأويلي بالانطلاق من الدرس اللساني المعاصر، لكنه ظل أسير “التأويليات الاختزالية” (بول ريكور) التي تحيل معنى النص إلى سياق إنتاجه وفق مقاربة تاريخانية تفكيكية لا تختلف في الجوهر عن تأويليات القطيعة والانفصال.
إن الوهم الكبير الذي انطلق منه جل المفكرين العرب هو النظر إلى تاريخ الثقافة الغربية من منظور تاريخاني انفصالي، في حين أن مسارات التنوير والتحديث في السياق الأوروبي لم تنح هذا المنحى. لقد ظهرت أفكار القطيعة من داخل تاريخ العلوم الذي ينفي آخره أوله كما يقول غاستون باشلار، ولم تطبق في تاريخ الأفكار إلا بصفة عرضية كما هو الشأن في كتاب ميشال فوكو “الكلمات والأشياء”، ولقد عدل فوكو عن هذا النهج في أعماله الأخيرة حول السيرة الطويلة للذات.
عندما نرجع إلى بواكير الحداثة الأوروبية، نلاحظ أن الفلاسفة الثلاثة الأبرزين وهم ديكارت، وسبينوزا وهوبز انطلقوا في تأسيسهم للحداثة من منهجية مزدوجة تتمثل في التجذر في المرجعية العميقة للتقليد مع الانفتاح والتجديد على أسس ومنطلقات نظرية ومعيارية راهنة.
في “خطاب المنهج”، الذي هو الوثيقة الفلسفية الكبرى للحداثة، يستعرض ديكارت علوم ومعارف الموروث الوسيط، مبينًا أن الحالة العلمية الجديدة (اكتشاف الطريقة التجريبية) تفرض إعادة بناء الميتافيزيقا ومراجعة المسلمات اللاهوتية القديمة، ولكن ضمن ثوابت التقليد في مقوماته الدينية والثقافية العميقة.
لا يختلف كانط عن هذا المسلك رغم قوة منهجه النقدي الذي يحصر المعرفة الممكنة في دائرة الظواهر التي تحكمها القوانين المحددة بالتجربة، فيؤكد بوضوح أن مثال الاستقلالية والرشد الذاتي الذي هو أساس الحداثة لا يمكن أن يستغني عن الموروث الديني القابل للترجمة في لغة العقل العمومي.
ومع أن فلاسفة الشك (ماركس، وفرويد ونيتشه)، بلوروا طريقة التأويليات النقدية الراديكالية، إلا أن المقاربة الهرمنوطيقية في الفكر الغربي انتهت إلى معالجات ثرية تجمع بين تأويليات الفصل التاريخية وتأويليات الوصل والانتماء.
التحول الكبير يتعلق بإعادة اكتشاف محورية النص في المنظور التأويلي، باعتبار أن العلاقة بين الذات والعالم ليست مباشرة وإنما تتم عبر علامات ودلالات النص التي لا يمكن وضعها بين قوسين أو تجاوزها من خلال النظر التاريخي الخارجي.
لقد أطلق غدامير على هذه الشبكة الدلالية مقولة “الدائرة التأويلية” وهو يعني بها انتماء المأوّل ضرورة إلى عالم النص، وانخراطه في التقليد المعرفي الذي يمارس من خلاله عملية النقد والتحليل. ومن هنا يميز غدامر بين المسبقات العقيمة التي لا تدفع المعرفة، والمسبقات الثرية التي هي مفاتيح القراءة والتأويل وعتبة الدخول إلى عالم النص. صحيح أن للخطاب سلطانه ونظامه كما بيّن فوكو، لكن الفرق واسع بين سلطة الخطاب التي تؤسس لمرجعيته الدلالية والبرهانية وسياجه المغلق المعيق للتفكير الحر والنقد التجاوزي. ولذا، فإن القول بتماهي المعرفة والسلطة، واعتبار نظام الخطاب سلطة إقصاء وعزل لا يستقيم، ما دام النص هو ضرورة سياق التفكير والتأويل، وكل محاولة للخروج من إطاره هي وهم زائف.
كان من المتوقع أن يغتني النظر التأويلي العربي بمناهج العلوم اللسانية واللغوية المعاصرة التي دخلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة بقوة في الساحة الثقافية العربية في رافديها الأساسيين: اللسانيات البنيوية والبرغماتية التداولية، وهما رافدان خصبان فَلْسَفِيًّا.
لقد ظل الحاجز قائمًا إلى حد بعيد بين الدراسات اللغوية والمقاربات الفلسفية، رغم أن هذه المقاربات ركزت على تحليل الخطاب من منظور المشاريع التراثية التي شغلت جل المفكرين العرب في السنوات الأخيرة.
وهكذا، بقي المسلك التأويلي أضعف جوانب التفكير الفلسفي العربي المعاصر، باستثناء بعض الدراسات النظرية والأكاديمية التي تركزت في الجامعة التونسية بإشراف وتوجيه صديقنا الفيلسوف محمد محجوب.
في الفكر الديني الإيراني، ظهرت محاولات مهمة في بلورة هرمنوطيقا إسلامية على غرار التأويليات البروتستانتية، وظفت أدوات العرفانية الصوفية في استكشاف الآفاق الرحبة المتجددة للمعنى والدلالة في النص (القبض والبسط حسب عبارة عبد الكريم سروش). ومع أن هذه المحاولات مهمة ومفيدة، لكنها اتجهت أساسًا إلى هدف بناء علم كلام جديد.
إنه المسلك نفسه الذي انتهجه حسن حنفي رغم جهوده المبكرة في استكشاف عناصر التأويلية الإسلامية الوسيطة والتعريف بالتأويليات الفلسفية المعاصرة، فلقد انتهى به المطاف إلى صرف جهده لتأسيس “لاهوت تحرير” إسلامي بدل تقديم رؤية تأويلية منسجمة ورصينة للتقليد الإسلامي.
كان الفيلسوف الفرنسي المعروف بول ريكور يقول إن المنهج التأويلي بقدر ما ينطلق من المسافة التاريخية التي تفصل القارئ عن المقروء، يرى في النص كيانًا مُسْتَقِلًّا عن سياق نشأته الأصلية، ومن ثم فإنه عالم نسكنه وننتمي إليه ونكتشف فيه آفاق وإمكانات رحبة قابلة للتحقق في المستقبل. لا ينتمي النص للماضي وحده، فهو من منظور القراءة التأويلية أفق للحاضر والمستقبل ومحدد ثابت من محددات الهوية الوجودية الراسخة.
وهكذا نخلص إلى أن التأويليات الاختزالية التي هيمنت على الكتابات الفكرية العربية أفقرت التقليد التراثي بحجة قراءتها التشخيصية التفكيكية التي لا ترى فيه إلا أثرًا للماضي الغابر. كان محمد أركون يشكو دومًا من انغلاق السياج العقدي في التراث الذي يمنع حسب كلامه كل ممارسة تأويلية نقدية، بيد أن السياج المنهجي المغلق الذي تعامل به مع المسألة التراثية قد يكون هو العائق الذي حال بينه فعلًا واستكشاف جوانب الثراء، والتنوع وإمكانات التجديد في التقليد التراثي.