قبل عشر سنوات، أصدرت كتابي “أعلام الفكر العربي” الذي نال اهتمامًا كبيرًا في الساحة الثقافية العربية، التي كانت تفتقد مرجعًا مبسطًا حول الفكر العربي المعاصر.
لقد سبق هذا الكتاب عملان رائدان هما كتاب ألبرت حوراني “الفكر العربي في عصر النهضة” الذي صدر بالإنجليزية عام 1939 وترجم للعربية عام 1970، وكتاب فهمي جدعان “أسس التقدم عند مفكري الإسلام” الذي صدرت طبعته الأولى عام 1979. ما تميز به الكتاب الذي نشرت هو أنه غطى مساحة واسعة كانت غائبة في الكتابين المذكورين، بحيث تعرض لأبرز وجوه الفكر العربي المعاصرة.
بيد أن الكتاب لم يتناول العلماء والباحثين المتخصصين، وإنما كان اهتمامه محصوراً في من تنطبق عليهم معايير المفكرين، وهي: تجاوز الاختصاص، وسعة التأثير وقوة الإبداع والتجديد. ومن هذا المنظور، ترجم الكتاب لثلاثة وثلاثين من كبار المثقفين العرب الذين تتوفر فيهم هذه المميزات، من طه حسين المتوفى سنة 1973 إلى وجوه الفكر العربي الأحياء (وقد رحل العديد منهم بعد صدور الكتاب).
بعد عشر سنوات على صدور الكتاب، لا تزال معايير اختيار المفكرين مثار جدل واسع، فالبعض يعترض على حصر الاهتمام بعدد قليل من الكتاب والمؤلفين، والبعض الآخر يشكك في مدى انطباق هذه المعايير على شخصيات فكرية بعينها تم تناولها .
ليس من همنا الدخول في هذا الجدل، وإنما سنكتفي بالدفاع عن المعايير التي تم اعتمادها في انتقاء المفكرين العرب، مع أن هذه الصفة تطلق عادة بكثير من التبسيط والتجوز على مثقفين وأكاديميين لا تتوفر فيهم .
لا أحد ينكر بطبيعة الحال، أن الساحة العربية عرفت فلاسفة متخصصين كبارًا لهم إسهاماتهم الفريدة في التدريس والبحث، كما عرفت علماء اجتماع ونفس وعلماء لغة ونقادًا متميزين، لكن أغلب هؤلاء لم يؤثروا في حركة الفكر العربي ولم تتجاوز إسهاماتهم دائرة الاختصاص الدقيق.
فالفرق بين عبد الرحمن بدوي، أو زكي نجيب محمود وحسن حنفي وكلهم فلاسفة ترجم لهم الكتاب مع فلاسفة من نفس الاختصاص مثل نجيب بلدي، وفؤاد زكريا، وزكريا إبراهيم، وغيرهم، هو كون أعمال الصنف الثاني ظلت حبيسة الاختصاص الدقيق على أهميتها ولم يتعد أثرها إلى غيرها من ضروب الثقافة والفكر .لا يهمنا بدوي مؤرخ الفلسفة الذي كتب في جلّ محاور البحث الفلسفي، بل بدوي المفكر الذي حاول وضع مذهب عربي في الوجودية أثار اهتمام الأدباء والكتاب والمثقفين على نطاق واسع. الحكم نفسه ينطبق على زكي نجيب محمود في نظريته في تجديد التراث وحسن حنفي في لاهوت الثورة والاستغراب .
ولقد كان خلدون النقيب، وعبد الباقي الهرماسي عالمي اجتماع بارزين، لكنهما لم يقدما أطروحات فكرية عامة مؤثرة في الحقل الثقافي العربي، على غرار مؤلفين من نفس الاختصاص مثل سمير أمين وعبد الوهاب بوحديبة. نفس الحكم ينطبق على مؤرخين كثر لم تتوفر فيهم مميزات مفكرين بارزين من نوع عبد الله العروي وهشام جعيط.
ومع أني تناولت أسماء عديدة، إلا أن ثلاث شخصيات كبرى ظهرت لي تتناسب كليًّا مع معايير المفكر التي حددها القرن الثامن عشر الذي كان عصر المفكرين في أوروبا، وهي الأديب المصري طه حسين، والكاتب الجزائري مالك بن نبي والمؤرخ المغربي عبد الله العروي.
ينتمي الثلاثة إلى أجيال متمايزة: ففي حين أصدر طه حسين أهم إنتاجه في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، نشر بن نبي كتاباته الأساسية في الخمسينيات والستينيات، وبرزت أعمال العروي الأساسية منذ السبعينيات وما تلاها .
لا تهمنا كتابات طه حسين النقدية في الشعر الجاهلي وفي أدب المتنبي والمعري ولا إسلامياته في السيرة وتاريخ الخلافة الإسلامية، بل مشروعه الثقافي التنويري الذي عبر عنه في كتابه الشهير “مستقبل الثقافة في مصر” الصادر عام 1938. ويمكن اعتبار هذا الكتاب الوثيقة الفكرية الأساسية لحركية التحديث المصرية، وخلاصة أفكار الاتجاه الليبرالي المتشبع بقيم ومفاهيم التنوير الأوروبي
ويمكن أن نربط بين هذا الكتاب وأعمال قريبة منه ومعاصرة له، مثل كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” وكتاب قاسم أمين “تحرير المرأة “. ولا يتسع الحيز هنا لتقويم تجربة التحديث الليبرالي العربي ولا تفسير كبوتها وإخفاقها، لكن من المؤكد أن مشروع طه حسين هو أهم تجليات هذه التجربة على المستوى الفكري .
أما مشروع مالك بن نبي، فيختلف نوعيًّا عن مقاربة طه حسين من حيث تركيزه على حركية الإصلاح بالمنظور الديني الحضاري. لكن مسلك بن نبي اختلف جوهريًّا عن أدبيات الإسلام السياسي الذي زامن نشأته وتحولاته، ولقد كان إسهامه الأساسي في الفكر العربي هو نظريته في شروط النهضة التي تدمج العوامل التاريخية، والنزعة الكونية وفق مقتضيات التشكل المعاصر للعالم، بالدفاع عن تحالف الثقافات الجنوبية والشرقية وبناء كتلة أفرو آسيوية تكون الأفق الاستراتيجي للعالم الإسلامي (محور طنجة-جاكرتا). ولا شك في أن السؤال مطروح حول انحسار مشروع مالك بن نبي وتراجع الاهتمام به في فترة صعود أيديولوجيات التطرف الديني.
أما عبد الله العروي فقد انطلق من دراسة أفكار الإصلاح والتحديث في الثقافة العربية المعاصرة في كتابيه الأولين “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” و”أزمة المثقفين العرب”، لكنه تميز على غرار مفكري عصر التنوير الأوروبي بالجمع بين الكتابة الفلسفية ذات الجمهور الثقافي الواسع والعمل الإبداعي الأدبي، وقدم أطروحات تأسيسية رائدة في النقد الثقافي والاجتماعي تركزت حول سلسلته المفاهيمية ذات التأثير الواسع في الجمهور العربي .
هل نعيش نهاية عصر المفكرين العرب بعد رحيل أبرزهم وجلهم؟
لا يزال العروي حيًّا وإن كان توقف عمليًّا عن الكتابة الفكرية بعد كتابه الهام “السنة والإصلاح” الصادر سنة 2008، ولعل صمته الطويل دليل ملموس على انحسار هذا النموذج الذي كان من آخر وأهم رموزه. لقد صنع المفكرون الأوروبيون الثورات السياسية والمجتمعية الكبرى التي عرفتها قارتهم في القرون الثلاثة الأخيرة، أما المفكرون العرب فرغم أهمية إنتاجهم وسعة تأثيرهم لم ينجحوا في هذا الدور التاريخي، لأسباب نعود لها لاحقًا .