مقال لغدير طيرة، اليمن
أحد الأعمال المشاركة في تحدي الأصوات الخضراء للشباب والشابات في العالم العربي
لا مفر للمجتمع الحاضر من الإقرار بحقوق الطبيعة، والإقرار بها يعني احترامها. هذا الإجراء ليس مجرد مطلب ترفي؛ بل يرقى ليكون ضرورة وجودية وشرطًا مَرْكَزِيًّا لضمان المستقبل. هذا إذا كان الإنسان صادقًا مع نفسه وأراد مستقبلًا يعيش فيه آمنًا دونما مهددات كبرى. سيكون عليه أن يؤسس عمله بشكل يحقق الغاية المطلوبة ودونما كلفة. أي أنه مطالب أن يربح الحاضر والمستقبل معًا. كيف ذلك؟ هناك ما يسمى بالـ “وظائف الخضراء” وهي وظائف آمنة ومحصنة من خطر التغيرات المناخية القاسية. فهذه هي الطريقة الوحيدة ليؤكد بواسطتها الإنسان احترامه للطبيعة. ليس لكون ذلك الاحترام نهجًا كفيلًا بتحقيق التنمية المستدامة فحسب، بل ولكون الطبيعة هي المصدر الوحيد لكل مهن ووظائف الاقتصاد الأخضر إذا ما أُحسن استغلالها.
غير أن السؤال الذي يحاصر الشباب العربي ممن يستعدون لسوق العمل، يتصل بماهية الوظائف الخضراء؟ وأين يمكن العثور عليها؟ وما المهارات التي يحتاجونها للوصول إلى مثل هذه الوظائف؟ كي يحظى المجتمع العربي بمستقبل أخضر خالٍ من ثاني أكسيد الكربون.
وإجابة على تلك التساؤلات -التي يسعى هذا المقال لتبيانها- تجدر الإشارة إلى أن معنى مصطلح “الاقتصاد الأخضر”، لا يخرج عن الدلالة الإجرائية لإحالة كل ما في البيئة من موارد، وإحالتها إلى مشاريع اقتصادية، شريطة أن تكون الطرق المهنية لاستخدام تلك الموارد صديقة للبيئة نفسها، أي لا يترتب على تلك الطرق أي عوادم كربونية من شأنها الإخلال بنظام توازن البيئة البكر.
وتبعًا لذلك، فإن الجمع بين المهنة وحماية البيئة سيفضي إلى مصطلح “الوظيفة الخضراء” ذات الناتج المستدام، بِيئِيًّا، وَاقْتِصَادِيًّا، وَاجْتِمَاعِيًّا، ليس بديمومة عطائها فحسب، بل وبوضعها العنصر الإنساني في المقام الأول عبر ضمان الأجور الكافية، والعمل المشروط بالأمان واحترام حقوق العمال، وأن تكون هذه الوظائف في متناول الجميع، وأن تصل جدواها النفعية إلى الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
إنّ الاقتصاد الأخضر بات ملاذًا آمنًا يعول عليه تحقيق التوازن والانسجام بين المجتمع والأرض، بعيدًا عن تأثيرات الجوائح الكونية المدمرة الناجمة عن تغير المناخ باعتباره التحدي الأهم أمام اقتصاد القرن الواحد والعشرين، وفق خبير الاقتصاد المناخي سولومون شانغ (باحث في جامعة كاليفورنيا بيركلي).
إن الوصول إلى الاقتصاد الأخضر يعني الاحتياج الفعلي لابتكار وظائف جديدة ومهارات عديدة تتناسب مع التغيرات المناخية، وتسهم في الحد من تداعياتها القاسية على البيئة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالوظائف الخضراء التي يشكل امتلاك مهاراتها أهم عناصر المعادلة السحرية لتحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
الأهم أن العثور على الوظائف الخضراء ممكنٌ ووافر في قطاعات الاقتصاد الزراعي والصناعي والخدمي والإداري، وغيرها، لكن جُلّ هذه الوظائف يتركز بشكل أكبر في مجالات الطاقة المتجددة، والكيمياء الخضراء، وصناعة الهيدروجين الأخضر، والمباني الخضراء، والغابات، والسلامة الإقليمية، والنقل المستدام، والتسويق الأخضر “البيئي”، والسياحة المستدامة والتصميم الفني، والصحافة البيئية والنشر… إلخ.
يتوقع تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية (ILO) بأن لدى الاقتصاد الأخضر إمكانية حتمية لخلق 24 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030م، شريطة وضع سياسات صائبة لتعزيز اقتصاد أكثر اخضرارًا. أما المهارات الخضراء، فيرى الخبراء بأنها تعني القدرات القائمة على المعرفة والقيم والمواقف اللازمة للعيش في مجتمع مستدام وفعال من حيث الموارد الطبيعية القابلة للاستمرار الكفيل بدعمه وتطويره.
وإلى جانب المهارات الشخصية المشفوعة بالذكاء الفطري التي تشكل عوامل حسم ضرورية في توجيه الإبداع الإنساني المتفاوت من شخص لآخر، تتطلب الوظائف الخضراء جملة من المهارات اللازمة لتحقيق الاقتصاد الأخضر، والتي وزعها الخبراء على أربع مجموعات:
المجموعة الأولى: المهارات الهندسية والتقنية اللازمة للثورة الصناعية الرابعة التي تشمل مهارات التقنية، من برمجة الحاسوب، ومعارف الترميز، وإدارة المشاريع المالية.
المجموعة الثانية: المهارات العلمية والمعرفية.
المجموعة الثالثة: مهارات المراقبة.
المجموعة الرابعة: مهارات إدارة العمليات، وتدخل ضمنها المهارات المتعلقة بالتفكير التصميمي والإبداعي، والقدرة على التكيف والمرونة، وحتى التعاطف يعد أمرًا بالغ الأهمية.
وفي هذا المقام، لـن ينسى العالم ما تسببت به الجائحة الكونية كورونا (COVID- 19) من فقدان ملايين الناس لوظائفهم على مستوى العالم، وكيف اندفعت بعض الحكومات بعشوائية نحو تحويل الأموال إلى قطاعات غير مستدامة كجزء من حلول تعافي ذلك الفقدان، غير أن الأفضل من ذلك تجسد فيما اتخذته بعض الدول مثل: الصين وغيرها على طريق التدابير الخضراء كجزء أساسي من حزم التحفيز لاستعادة دورة الاقتصاد.
ويبقى التساؤل المطروح هو: كيف تتم هذه التدابير التي تحفز في التكنولوجيا الخضراء من أجل الحد من التغييرات المناخية ذات العواقب الطبيعية الكارثية في دولة غنية مثل الصين؟
بالفعل هناك تدابير عديدة اتبعتها الصين لتحقيق التوازن بين الجانب الاقتصادي والبيئي من خلال التوجه إلى استخدام واستغلال مصادر الطاقة الخضراء كبديل نظيف، متجدد وغير مكلف ماديًّا، وغير ملوث للبيئة والاستعاضة عن مصادر الطاقة غير المتجددة بمصادر الطاقة الخضراء من أجل تحقيق الركائز الأساسية للتنمية المستدامة، والتي شملت التكنولوجيا الخضراء وفروعها: الكيمياء الخضراء، وتقنية النانو الخضراء، والمباني الخضراء، وتكنولوجيا المعلومات الخضراء، والطاقة المتجددة.
ووفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الصادر في 2020 م، فإن تدابير التحفيز في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثلت فرصة جيدة للاستثمار في التحولات الاقتصادية الحقيقية والابتكارات التكنولوجية مع تجنب (ظاهرة الغسيل الأخضر)، مثل تعزيز تكنولوجيات الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح للمدن الخضراء الذكية وكذلك مشاريع تحلية مياه البحر (مدعومة بمصادر الطاقة المتجددة) وتطوير أنظمة النقل العام.
لذلك يجب أن تدعم الشركات تطوير المهارات الخضراء وإعادة صقل المهارات من خلال الاستثمار في تدريب القوى العاملة ودورات التعلم والبرامج المحلية، ومن الضروري أن يفكر العمال في مهنة خضراء تعزز قابليتهم للتوظيف في المستقبل وتسمح لهم باكتساب المهارات بانتظام. وترى منصة LinkedIn المهنية أن رواد الأعمال عبر القطاعات والبلدان يقودون المهارات الخضراء على مستوى العالم ويتزايد طلبهم للشباب الذين يمتلكون المهارات المبينة في الصورة التي توضح أعلى 25 دولة من حيث عدد القطاعات التي تتطلب جملة من المهارات الخضراء.
خلاصة لذلك، يمكن القول: إننا ملزمون -كشباب- برفع مهاراتنا وقدراتنا الكفيلة بتحقيق الاقتصاد الأخضر، وبما يواكب متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، والتوجهات العالمية، نحو اقتصاد ينسجم مع البيئة، كما أن علينا الإدراك بأن المهن الخضراء، ليست مجرد مهنٍ ذات تأثير إيجابي على البيئة فقط؛ بل يمتد أثرها النافع إلى التحفيز على الابتكار والإبداع المهني في مضمار بناء الاقتصاد الأخضر الذي يتوقع الخبراء ارتفاع مساهمته في الاقتصاد العالمي بأكثر من 12 ترليون دولار بحلول عام 2030م.
كلمة أخيرة: يمكننا القول إن أعظم مهمة يتحملها الإنسان في الزمن الحديث، هي هذه المهمة المتمثلة في حماية الطبيعة من النزيف الذي تتعرض له. فكوكب الأرض يواجه أكبر خطر منذ بدء الحياة عليه. خطر فقدانه للتوازن البيئي واختلال عناصر الحياة الأساسية، ما يعني أن كوكبنا يمكن أن يغدو مكانًا غير صالح للعيش فيه. ولأننا حتى اللحظة لا نملك مكانًا بديلًا. يتوجب علينا أن نبتكر كل الطرق لحماية الكوكب. والدفاع عن النظام الطبيعي فيه كما لو كان منزلك الخاص. وحين يصل الإنسان لهذا الوعي العالي في تعامله مع الطبيعة، يمكننا القول إن المستقبل سيكون مبشرًا بخير. وما فكرة الوظائف الخضراء سوى محاولة لتنظيم نشاطات الإنسان بشكل متناغم مع الطبيعة ورفع درجة حساسيته تجاهها.