قبل أربعين سنة، تساءل المفكر المصري حسن حنفي في مقال مشهور “لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟”.
لقد لاحظ حسن حنفي أن علم الكلام الإسلامي حاصر المباحث الإنسانية ما بين الطبيعيات والإلهيات في ثلاثيته العلم والوجود والإلهيات، في حين غاب المبحث الإنساني في الثلاثية الفلسفية: المنطق والطبيعيات والإلهيات.
ومع أن المفكر الجزائري محمد أركون في كتابه حول النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري قد راجع جُزْئِيًّا هذه الأطروحة من خلال وقوفه عند التراث الأدبي العربي الوسيط الذي تناول الموضوعات الإنسانية بعقلانية وحس تاريخي خارج القوالب الدينية (المقدسي، وابن مسكويه والتوحيدي، وغيرهم)، إلا أن الفكرة السائدة هي أن الفكر الإسلامي الوسيط كان خاليًا من النزعة الإنسانية من حيث مقولات الحرية والوعي والحس الاجتماعي.
ولقد كان الفيلسوف الألماني الأشهر هيغل يقول إن اللاهوت الإسلامي لا مكان فيه لذاتية الإنسان وحريته لكونه متمحورًا حول الإله المجرد المنفصل كُلِّيًّا عن الإنسان، في حين يقنن الشرع كل معاملات وسلوك المسلم في عبوديته المطلقة واستسلامه الكامل للخالق.
ولقد زعم هيغل أن المسيحية قد دشنت الجذور البعيدة للنزعة الإنسانية من خلال عقيدة التجسد التي تكرس فكرة الإنسان الأعلى القادر على اكتساب كل الخصائص والصفات الإلهية. ولذا، فإن مفهوم الوعي بالذات له جذوره اللاهوتية في المسيحية وحدها على عكس اليهودية والإسلام.
ولقد نفذت هذه الأطروحة إلى الأدبيات الاستشراقية الكلاسيكية وأصبحت من المسلمات الرائجة في الكتابات المنتشرة عن الإسلام، كما هو واضح مثلًا في أعمال الفيلسوف الفرنسي رمي براغ، خصوصًا في كتابه “قانون الإله”.
كان المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي قد نبهنا في كتابه “مفهوم الحرية” الصادر في بداية الثمانينيات إلى خطأ البحث عن الحرية بالمفهوم الإنساني الحديث في الأدبيات الكلامية والفقهية التي كانت محصورة في تصور ومعالجة الحرية بالمفهوم الميتافيزيقي حتى في الجدل حول خلق الأفعال الذي شغل المتكلمين، مبينًا أن مساحات الحرية واسعة وعديدة في التجربة التاريخية العينية للمجتمعات العربية المسلمة الوسيطة.
وفي ما وراء ملاحظة العروي الوجيهة، يظهر لنا أن التقليد العربي الإسلامي بلور كل المقومات النظرية والعقدية الضرورية لانبثاق النزعة الإنسانية في حضارتنا، على ما طبعها أحيانًا من استبداد وقمع وتعصب لا خلاف حوله.
لا يختلف الإسلام عن الديانات التوحيدية الأخرى في اندراجه في أفق التعالي أي تصور الألوهية خارج مقاييس الطبيعة وبانفصال كلي عن الوجود الحسي المادي. جوهر عقيدة التوحيد هو القول بالإله المطلق الواحد المخالف كُلِّيًّا لمخلوقاته.
ومن الصحيح أن هذا المبدأ قوي في العقيدة الإسلامية وهو الناظم لكل النسق العقدي، ومنه نستنتج ثلاث نتائج كبرى حاسمة هي:
1. قيام الإنسان في ذاتيته الواعية المنفصلة، وذلك هو مضمون مفهوم الخلق من حيث هو تكريس لتمايز الإله في ذاته صفاته وأفعاله عن الإنسان.
2. تكريس فكرة الحرية التي لا معنى لها إلا من حيث هي خروج عن نظام الطبيعة وانفلات من تحديداتها وضروراتها المغلقة. فالحرية كما أدرك كانط من المقولات الميتافيزيقية المرتبطة بوجود الإله وخلود النفس، ولا يمكن أن تستنبط من التصورات الطبيعية.
3. تدشين أفق التاريخ من حيث هو مسار زمني غائي متصل، فلا معنى لسيرورة الزمن الإيجابية إلا في تصور عقدي ينطلق من التعالي واللاتناهي.
وإذا كان نمط الاعتقاد الإسلامي تمحور حول الألوهية المجردة من كل تشبيه أو إحاطة بشرية، إلا أن لاهوت التنزيه لا ينفصل في التقليد الإسلامي عن لاهوت القرب الذي هو أساس عقيدة الاستخلاف والأمانة، التي تذهب إلى حد النص على أن الله أقرب إلى عباده من “حبل الوريد”. ولقد اعتبر فلاسفة الإسلام الكبار مثل أبي حامد الغزالي أن الصفات الإلهية ليست تحديدات وجودية بالمعنى التشبيهي المألوف، بل هي آفاق للتشبه والتقرب من الكمال الإلهي الذي لا سبيل للوصول إليه أو الاقتراب منه.
في الفكر الإسلامي المعاصر، ظهر تيار قوي يلغي أدبيات القرب والتراث الإنساني الغني، باسم محاربة الشرك والجاهلية الجديدة وتكريس الحاكمية الإلهية في الواقع البشري.
ولقد بين عالم الأنثربولوجيا المعروف طلال أسد أن هذا الاتجاه قد حرف معنى الحاكمية الإلهية من دلالة السيادة المطلقة التي لا يمكن أن تتجسد في بناء سياسي أو قانوني إلى فكرة الدولة السيادية المطبقة للشريعة، في حين أن الشريعة هي حصيلة التفاعل التاريخي بين معايير وأحكام الدين والتاريخ الحي للجماعة المسلمة. ولقد بنى وائل حلاق على هذه الملاحظة استحالة نشوء الدولة بالمفهوم السيادي الحديث في المرجعية الإسلامية.
ما نريد أن نخلص إليه هو أن التقليد الإسلامي بلور المفاهيم المحورية في النزعة الإنسانية وفي مقدمتها فكرة الكرامة الإنسانية التي لا يختلف اثنان أنها وإن كانت هي قاعدة النزعة الإنسانية الحديثة فإن مرجعيتها لاهوتية وليست طبيعية وضعية.
صحيح أن الفكر العربي المعاصر لم يسع إلى بلورة وتوطيد المنظومة الحقوقية من داخل خطابه السياسي والأيديولوجي، لأسباب في مقدمتها أولوية البناء القومي على مبدأ الحرية الإنسانية، إلا أنه لا يوجد في تراثنا ما يحول دون تكريس وتدعيم النزوع الإنساني من مدونة حقوقية وقيم متسامحة كونية.
في كتاب هام بعنوان “الإسلام بدون استسلام”، يذهب الفيلسوف الفرنسي “عبد النور بدار” -مستلهمًا أفكار محمد إقبال- إلى قراءة غنية لمفهوم الاستخلاف الذي يرى أنه يؤدي في التقليد الإسلامي دور الاغتراب الإيجابي في المسيحية الذي تحدث عنه فيورباخ ونيتشه. ما يقصده بدار هو أن ختم الرسالة يعني في الإسلام تأكيد حرية الإنسان ورشده والرهان على أهليته للمسؤولية والأمانة. وكما في الحديث الصحيح قد يسمو المخلوق في إنسانيته إلى حد أن يصبح الله جل جلاله “سمع وبصر ويد ورجل” الإنسان.