في سنة 1783م، طرحت إحدى المجلات الثقافية في برلين سؤالًا مفاده “ما هو التنوير؟” على رجال الفكر والعلم، فحفظ لنا التاريخ رد الفيلسوفين الألمانيين “موسى مندلسون” و”أمانويل كانط”. مندلسون فيلسوف يهودي معروف كتب نصًّا لم يشتهر بعنوان “ما معنى فعل التنوير؟”، في حين انتشر على نطاق واسع مقال كانط “ما هي الأنوار؟”.
ما جمع بين الفيلسوفين هو تعريف حركة التنوير بالرجوع إلى المقاييس العقلانية الإنسانية، من حيث كونها تخرج الإنسان من “حالة القصور التي تفرضها عليها السلطات الدينية والسياسية” (كانط)، أو تحرر الإنسان من الخرافة والتعصب (مندلسون). لكن ما بدا لكانط حركية تاريخية واعدة ومبشرة بتحرر الإنسان وتقدمه، ظهر لمندلسون بصفته مصدر خطر أخلاقي ومجتمعي لما يمكن أن تفضي إليه هذه الحركية من تكريس العدمية، والفردية المتعصبة، واستعباد الإنسان واستغلاله. لقد عكس هذا التباين البارز بين مقاربتي مندلسون وكانط الجدل الواسع الذي خلفه فكر التنوير في ألمانيا الذي تميز بكونه امتدادًا لديناميكية الإصلاح الديني والتأويلية الفلسفية للنص المقدس. أما مندلسون، فهو وريث التنوير اليهودي الذي ارتبط بفلسفة سبينوزا التي كانت مؤطرة بكاملها بسؤال التأويل العقلاني للدين من خلال النقد العميق للتراث اللاهوتي والميتافيزيقي الوسيط، وهو الاتجاه الذي طوره “غوتهلد فرايم ليسنغ”، رائد التنوير الديني في ألمانيا.
والواقع أن خصوصية التنوير الألماني هي هذه العلاقة الوثيقة بالدين التي نتجت عنها الأطروحة الكانطية التي جسدها كتاب “الدين في حدود العقل وحده”، وهي التي تتمحور حول ترجمة المضامين الأخلاقية والإنسانية في الدين في لغة العقل العمومي، إيمانًا بأن دور الدين يتجاوز الأبعاد اللاهوتية ويرتبط بجوهر السؤال الأخلاقي في تداخله الكثيف مع خيرية الإرادة الإنسانية الحرة. لم يسلك التنوير الألماني الطريق الذي اتبعه التنوير الإسكتلندي (ومن أبرز رموزه دافيد هيوم وآدم سميث)، الذي اتسم أساسًا بالنظرة التجريبية للطبيعة، والإيمان بفكرة القانون الطبيعي ضمن منظور إصلاحي غير ثوري للدولة والنظام السياسي بما تطور تدريجيًّا نحو فكرة العقد الاجتماعي لدى هوبز وهي القائمة على السيادة المطلقة للدولة ضمانًا للسلم الأهلي. كما أن التنوير الألماني اختلف عن المسلك الفرنسي في نقده العنيف للدين وفي ميله الثوري الراديكالي ضد النظام السياسي القائم.
لم يعرف فكر النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الشيء الكبير عن فكر الأنوار، باستثناء نصوص عامة لروسو ومونتسكيو في العقد الاجتماعي والفصل بين السلطات، وقد وظفت غالبًا في محاربة الاستبداد (الكواكبي)، أو إصلاح المؤسسات العمومية للدولة (خير الدين التونسي). كما أن سؤال التقدم العلمي والتقني لم يطرح في جوانبه النظرية والفلسفية، وإنما اختزل في شعار “التمدن” أي اكتساب أو استيراد عناصر القوة المادية و”اللحاق بركب الأمم المتقدمة” (جمال الدين الأفغاني). ولعل الثغرة الكبرى التي عانى منها الفكر النهضوي العربي في مسألة التنوير هي غياب الإشكالية المحورية المتعلقة بالدين من منظور العناصر الفكرية الأساسية المتعلقة بتأويل النص، والأبعاد الأخلاقية والعقلانية في الممارسة الدينية.
كما لم تكن تركة فكر التنوير الديني الألماني معروفة لدى مفكري الإصلاحية العربية، الذين اتجهوا إلى اتجاهين بارزين هما: محاولة تأسيس علم كلام جديد يؤصل قيم العقلانية والحرية والتطور التاريخي (الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال)، وإعادة بناء النظرية الأصولية على أساس أطروحة مقاصد الشريعة بتحويلها إلى منظومة للقانون الطبيعي عبر تأويلية فقهية جديدة (الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي، وغيرهما). لقد تم هذا المجهود الواسع في إطار فكرة الإصلاح الديني من الداخل، وخارج سياق سؤال التنوير الذي جرف إلى مسالك وضعية نضالية لدى سلامة موسى وشبلي شميل.
في السنوات الأخيرة، عاد سؤال التنوير إلى الواجهة، في نوع من المفارقة المتمثلة في كونه برز في إطار الأزمة العميقة التي شهدتها الأيديولوجيا التقدمية الثورية التي هي في أصلها مناوئة لفكر الأنوار في نزعته النقدية العقلانية والإنسانية، ومقاربته المتسامحة المنفتحة للنظام الاجتماعي. وفي حين حاول حسن حنفي إماطة اللثام عن التنوير الديني من خلال ترجمة نصوص أساسية لسبينوزا وليسنغ وتقديم كتاب كانط في الدين منتهيًا إلى الدفاع عن “لاهوته الثوري” من منظور إسلامي، ظهر اتجاه واسع إلى إعادة قراءة التراث النهضوي الإصلاحي العربي من زاوية التنوير في مقابل تعصب وجمود التيارات السلفية وحركات الإسلام السياسي (جابر عصفور). بيد أن الإشكال ظل مطروحًا بقوة: هل لا يزال سقف النهوض الفكري العربي محدودًا بأفق الإصلاح الديني الذي هو أساسًا جهد تأويلي ومراجعة منهجية ومفهومية؟ أم أن الخيار المطلوب هو الانتقال إلى المنظور التنويري الذي هو خطوة أبعد في التأسيس العقلاني الإنساني لتجربة النظام المعرفي والاجتماعي الحر والتعددي؟
لا يزال السؤال موضوع التباس كبير، يشهد عليه طغيان مشاريع قراءة التراث وتأويله التي هي خارج أفق التنوير منهجيًّا، في الوقت الذي لا يزال استيعاب حركة التنوير الأوروبي في دوائرها المتنوعة والمتمايزة هشًّا ضعيفًا في الكتابات العربية الرائجة.
يجادل البعض أن لحظة التنوير لا بد من أن تسبقها مرحلة الإصلاح الديني،كما كان الشأن في التجربة الأوربية، وهو قول يحتاج إلى تدقيق، باعتبار أن مسارات الإصلاح تختلف نوعيًّا بحسب التقاليد الدينية. ولقد كان الفيلسوف الألماني الأمريكي “ليو شتراوس” قد بيّن الفرق الجوهري بين “التنوير اليهودي الإسلامي” الوسيط الذي يرتكز على التفكير العقلاني من داخل النص، وفي إطار شرعيته الداخلية، و”التنوير الراديكالي الحديث” الذي ينطلق من التعارض المحوري بين الموروث الديني والعقلانية الفردية الحرة.
من المنظور نفسه، تحدث مؤرخ الفلسفة والعلوم العربية الإسلامية مروان راشد عن “التنوير العباسي” الذي عنى به حركة التحرر العقلاني والإبداع العلمي التي أفضت إلى مقاربات تأويلية إنسانية رحبة للنص الديني، والتي يمكن أن تستأنف اليوم في لحظة تنويرية معاصرة دون التكرار الحتمي لمسار التنوير الأوروبي الحديث.