يجمع المراقبون على أن العالم العربي يمر بواحدة من أسوأ مراحل تطوره. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على ما يجري في فلسطين، وسوريا، ولبنان، والعراق، واليمن وليبيا وغيرها من البلدان العربية لندرك هذه الحقيقة. فعلى الرغم من كل ما تملكه المنطقة العربية من موارد بشرية ومادية، وما يربط بين شعوبها من روابط ثقافية وتاريخية تؤهلها لأن تكون من أكثر مناطق العالم ازدهارًا وتماسكًا، أصبحت المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم اضطرابًا وتصديرًا للاجئين، بسبب كثرة ما يجري فيها من صراعات داخلية، ومن حروب أهلية، ومن تدخلات إقليمية ودولية في شئونها الخاصة. غير أن الباحثين المتابعين لتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية في هذه المنطقة من العالم، يختلفون فيما بينهم حول تشخيص الأسباب التي أدت إلى تدهور أحوالها إلى هذا الحد. فالبعض يرجع هذا التدهور إلى أسباب داخلية، تتمحور في معظمها حول غياب الديمقراطية والحكم الرشيد، والبعض الآخر يرجعه إلى أسباب خارجية، تتمحور في معظمها حول التدخل المستمر للقوى الإقليمية والدولية في شئونه الداخلية وتعرضه بشكل دائم لمؤامرات خارجية تحاك ضده، خاصة من جانب الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية. والواقع أن العوامل الداخلية التي تحول دون نهضة العالم العربي وتقدمه واستقراره، والتي أتفق تمامًا مع القائلين بأنها تتمحور أساسًا حول غياب الديمقراطية والحكم الرشيد، ترتبط في تقديري ارتباطًا عضويًّا بالعوامل الخارجية، والتي أتفق أيضًا مع القائلين بأنها تعود إلى مؤامرات خارجية تحاك باستمرار ضد العالم العربي، بحيث يمكن القول إنه يصعب تمامًا، وربما يستحيل عمليًّا فصل أحدهما عن الآخر. فالمؤامرات الخارجية تنجح لأنها ترتكز على ثغرات وتناقضات داخلية في بنية المجتمعات العربية، وتسعى لتوسيعها وتعميقها باستمرار كي يبقى العالم العربي ضعيفًا ومنهكًا، ومن ثم يسهل التدخل في شئونه وسرقة ثرواته وموارده. ووجود الثغرات الداخلية، والتي تعود بدورها إلى عجز النخب السياسية عن الاتفاق على عقد اجتماعي متوازن بين الحكام والمحكومين العرب، يضعف من مناعة العالم العربي ويجعله عرضة للإصابة بكل أنواع الفيروسات القادمة من الخارج. لذا ينبغي على العالم العربي التصدي للمسألتين معًا، أي للثغرات الداخلية وللفيروسات القادمة من الخارج في الوقت نفسه، كي يكون بمقدوره كسر هذه الحلقة المفرغة التي تحول دون نهضته وازدهاره، وإلا فيظل يدور فيها إلى ما لا نهاية.
لا يختلف اثنان على أن المشروع الصهيوني يعد أحد أكبر التحديات الخارجية التي يواجهها العالم العربي، إن لم يكن أخطرها على الإطلاق. ولإلقاء الضوء على الاستراتيجية التي ينتهجها هذا المخطط الشيطاني في التعامل مع العالم العربي ككل، اخترت دراسة بعنوان: “إستراتيجية من أجل إسرائيل في الثمانينيات: A Strategy for Israel in the Nineteen Eighties) كتبها باللغة العبرية صحافي ودبلوماسي صهيوني سابق يدعى عوديد ينون Oded Yinon، ونشرتها صحيفة Kivunim الناطقة باسم الحركة الصهيونية، ومعناها بالعربية “اتجاهات”، وذلك في شباط-فبراير 1982، وهي الدراسة التي تنبهت رابطة الخريجين العرب الأميركيين لخطورة ما جاء فيها، وكلفت البروفيسور والناشط الحقوقي الإسرائيلي الراحل” يسرائيل شاحاك”، أستاذ الكيمياء العضوية في الجامعة العبرية ورئيس الرابطة الإسرائيلية للحقوق الإنسانية والمدنية، بترجمتها إلى الإنجليزية وكتابة مقدمة وخاتمة لها، ونشرت تحت عنوان “الخطة الصهيونية للشرق الأوسط”The Zionist Plan for the Middle East”.
قد يتساءل البعض عن مبررات الاعتماد على دراسة موجزة، تبدو أقرب إلى مقال صحفي، كتبها صحافي مغمور، حتى ولو كان موظفًا سابقًا في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتعامل معها وكأنها وثيقة رسمية صادرة عن المؤسسات الصهيونية أو عن الدولة الإسرائيلية، بدلًا من الاعتماد على وثائق صادرة عن جهات أو شخصيات رسمية. ولهؤلاء أقول إن البروفيسور شاحاك، اليهودي والدارس المتعمق للفكر الصهيوني، هو الذي أكد بنفسه في مقدمة ترجمته الإنجليزية على أن ما كتبه “ينون” حول هذا الموضوع، وبرغم كل ما تضمنه من أوجه قصور وتعميمات، يعد الأكثر شمولًا والأدق تعبيرًا عن التيار الرئيسي في الفكر الصهيوني، ويعكس بأمانة ما يدور داخل عقل التيار الرئيسي للحركة الصهيونية، ما دفعه إلى اختيار عنوان آخر مثير للطبعة الإنجليزية التي نشرتها رابطة الخريجين العرب الأميركيين، هو “الخطة الصهيونية”، مع الاحتفاظ بالعنوان الأصلي كما هو. وربما يتساءل آخرون أيضًا: وهل يعقل أن تنشر الحركة الصهيونية خطة تفصح عن نياتها الحقيقية، حتى ولو كتبت بالعبرية؟ ومرة أخرى يتولى شاحاك الإجابة بنفسه عن هذا التساؤل، طارحًا تفسيرين، الأول: يقول بأن الحركة الصهيونية أرادت من نشر الوثيقة بالعبرية تثقيف الأجيال الجديدة للنخبة الإسرائيلية، خصوصًا العسكرية منها، وإحاطتها علمًا بما كان يدور في عقل آبائها المؤسسين، وتوعية هذه الأجيال بأمور كانت تقتصر في ما مضى على التلقين الشفهي المعيب. والثاني: اعتقاد الحركة الصهيونية بأن العقل العربي سيعجز عن التعامل الواعي مع دراسة من هذا النوع، حتى بعد نشرها.
والواقع أننا إذا حاولنا استخلاص أهم الأسس التي تقوم عليها الإستراتيجية الصهيونية لتفتيت العالم العربي، وفقًا للنتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة، فسوف نجد أنها تنطوي على ركيزتين أساسيين:
الركيزة الأولى: تتعلق برؤية الحركة الصهيونية للبيئة الديموغرافية والاجتماعية والثقافية المحيطة بها. فهي ترى أن العالم العربي، بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، لا يشكل كتلة واحدة متجانسة إثنيًّا أو دينيًّا أو اجتماعيًّا، وإنما منطقة شديدة التنوع تتكون من “موزاييك” تتصارع في داخله قبائل، وطوائف، وأقليات قومية وعرقية ودينية ومذهبية وغيرها، وأن الكيانات القائمة حاليًّا، والتي يطلق عليها اسم “الدول العربية”، صنعتها مصادفات تاريخية وسياسية، ومن ثم فهي غير قابلة للدوام.
الركيزة الثانية: تتعلق برؤية هذه الحركة لأمن الكيان الصهيوني نفسه وللوسائل الكفيلة بتحقيقه. فأمن إسرائيل المطلق لن يتحقق من خلال التفوق العسكري وحده، رغم أهميته القصوى، ولكن بالنجاح في منع قيام أو استمرار أي دولة مركزية كبرى في المنطقة، والقدرة على تفتيت ما هو قائم منها وتحويله إلى كيانات صغيرة تقام على أسس طائفية أو عرقية. فإذا نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق ذلك تكون قد تمكنت من ضرب عصفورين بحجر واحد. الأول: تمكين إسرائيل من أن تصبح دولة طبيعية في المنطقة تقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها بقية الدول المجاورة، والثاني: تمكين إسرائيل، القوية عسكريًّا، واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا مقارنة ببقية الدول المحيطة، من قيادة المنطقة والسيطرة على تفاعلاتها، وهو ما يمكن أن يسمح لها بأن تلعب دور ضابط الإيقاع الذي يتولى تنظيم وضبط علاقات المنطقة وفق رؤاها ومصالحها الخاصة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق لي أن قمت بنشر سلسلة مقالات سابقة حول دراسة “ينون”، في أعوام 2007، و 2014، إلا أنني أعتقد أن هذه الدراسة- الوثيقة هي من الخطورة بحيث تستحق أن نذكر الأجيال العربية الشابة بما جاء فيها بين الحين والآخر، وذلك لأسباب عديدة أهمها:
- أنها نشرت للمرة الأولى بعد سنوات قليلة من توقيع مصر على معاهدة سلام مع إسرائيل، وبعد أشهر معدودة من اغتيال السادات، وقبل شهرين فقط من إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء (25 نيسان- أبريل 1982). وعندما قامت إسرائيل بغزو لبنان بعد أقل من أربعة أشهر على نشر هذه الدراسة، تصرفت وكأنها تطبق حرفيًّا ما ورد فيها حول ما ينبغي أن تكون عليه الاستراتيجية الصهيونية تجاه العالم العربي. وربما كان هذا هو ما دفع رابطة العرب الأميركيين إلى الاهتمام بها، وترجمتها، ونشرها في نهاية العام نفسه، أي عام 1982، وحسنًا فعلت.
- بات واضحًا، وبما لا يقبل أي مجال للشك، أن الحركة الصهيونية بقيادة إسرائيل لعبت دورًا محوريًّا في جر الولايات المتحدة للقيام بغزو العراق عام 2003، وأن الإدارة الأميركية تحت قيادة بوش الابن تصرفت في العراق وكأنها أداة في يد حركة صهيونية تضع تقسيم العراق على رأس أولوياتها كمقدمة لإعادة رسم وتخطيط المنطقة.
- أن ما جرى في المنطقة بعد الاحتلال الأمريكي في العراق، وخاصة أثناء اندلاع ثورات “الربيع العربي” وما جرى للعالم العربي بعدها، يوحي بأن المشروع الصهيوني لتفتيت العالم العربي ما زال قائمًا ومستمرًا حتى الآن.
- من حق الأجيال الشابة من المواطنين العرب علينا تنبيههم بين الحين والآخر إلى ما يحاك لأوطانهم، وأن نحثهم على دراسة ومناقشة كل الآراء، بما فيها تلك التي تبدو مسكونة بنظرية المؤامرة، حتى لا تفاجأ هذه الأجيال ذات يوم بأن مستقبلها ضاع وأن أوطانها سرقت منها.
وسوف أخصص مقال الأسبوع القادم للحديث عن مخطط تقسيم مصر، ثم سأتناول تباعًا مخططات تقسيم المشرق العربي، ثم منطقة الخليج وشمال إفريقيا، وسوف أنهي هذه السلسلة بمقال ختامي يستهدف وضع دراسة “ينون” في سياق التطورات التي طرأت على المنطقة منذ نشر هذه الدراسة حتى الآن واستخلاص الدروس المستفادة.