في مثل هذه الأيام قبل ستين سنة عزلت السلطات الاستعمارية الفرنسية ملك المغرب الشرعي محمد الخامس ونفته مع أفراد عائلته إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر، بما أجج المقاومة الوطنية ضد الاحتلال وأفضى في نهاية المطاف إلى عودة الملك رمز الشرعية إلى مركز الحكم ومن ثم استقلال البلاد وبناء الدولة المغربية الحديثة.
يطلق المغاربة على هذا الحدث المحوري “ثورة الملك والشعب” التي كانت تكريسًا لنضال مشترك بين العرش والقوى الوطنية منذ الأربعينيات، وكما هو معروف كانت وثيقة المطالبة بالاستقلال التي قدمتها الكتلة الوطنية في كانون الثاني/يناير 1944 أول تجسيد عملي لهذا الحلف الوثيق بين الملك والقوى السياسية الوطنية.
إن الحالة المغربية تكتسب خصوصيتها من ثلاثة محددات كبرى هي:
- انحياز المؤسسة الملكية كليًّا لحركة المقاومة الوطنية منذ انبثاق المشروع الاستعماري في بداية القرن العشرين إثر استحكام الهيمنة الفرنسية على الجزائر، وتونس، وموريتانيا وبلدان غرب إفريقيا. في كانون الثاني/يناير 1908 بايع علماء وأعيان فاس المولى عبد الحفيظ سلطانًا للبلاد بيعة “مشروطة” بمواصلة الجهاد المسلح دفاعًا عن استقلال المغرب. وعندما اضطر السلطان إلى توقيع اتفاقية الحماية سنة 1912 فرض عليه التنازل عن العرش لصالح أخيه يوسف. بيد أن المؤسسة الملكية ظلت رغم ضغوط الحماية قريبة من مطالب الحركة الوطنية وفي انسجام كامل معها، إلى أن اندلعت ثورة الملك والشعب في 20 آب/أغسطس 1953.
- تجذر الشرعية الملكية مرتكزًا محوريًّا من مرتكزات الهوية المغربية. فعلى الرغم من حدة الصراع السياسي الذي عرفه المغرب قبل الاستقلال وبعده، إلا أن مجموع القوى السياسية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها الأيديولوجية والفكرية حافظ على الولاء للمؤسسة الملكية، بما فيها أحزاب اليسار الراديكالي التي رفضت الانسياق مع موجة الثورات العسكرية التي عرفتها دول عديدة في العالم العربي منذ الخمسينيات.
- اعتماد التعددية الحزبية والانتخابية في النظام السياسي المغربي ضمن توافقات الملك مع القوى الوطنية في إطار ثورة الملك والشعب. فمنذ دستور 1962 (الذي بدأ الإعداد له منذ الاستقلال) وقد خضع لتعديلات عديدة آخرها 2011، نص صراحة على منع الحزب الواحد والأخذ بالتعددية والتمثيل الانتخابي الحر في مختلف مستويات الحياة السياسية. وعلى الرغم من كل نواقص وثغرات الانتخابات التي عرفتها البلاد في بعض مراحل تأزم الحياة السياسية في الستينيات والسبعينيات، إلا أن خيوط الوصل ظلت قائمة بين المؤسسة الملكية ومختلف ألوان الطيف السياسي.
كان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني يقول إن العالم العربي المعاصر عرف ثورتين مؤسستين في تاريخ متقارب هنا ثورة الضباط الأحرار في مصر في 23 يوليو/تموز 1952 وثورة الملك والشعب في المغرب في 20 آب/أغسطس 1953. كانت الثورة الأولى أيديولوجية حملت المشروع القومي العربي وسعت إلى بناء كتلة عربية وازنة على الصعيد الدولي، وإن كانت على رغم مكاسبها ومزاياها الكثيرة تسببت في هزيمة 1967 التي ما يزال العرب يدفعون ثمنها غاليًا.
أما الثورة الثانية، فقد نجحت في تحرير المغرب وبناء وتكريس الهوية الوطنية المغربية التي كما بين المؤرخ الكبير عبد الله العروي كانت نتاج مشاريع الإصلاح التي تبنتها الملكية في ظرفية يطبعها الانفتاح على الخارج وتنامي ضغوط الدول الغربية الكبرى منذ القرن التاسع عشر.
وعلى الرغم من اختلاف طبيعة الثورتين وخلفياتهما، إلا أنهما التقتا في دعم المسار التحرري في إفريقيا، والوقوف المكين مع الثورة الوطنية الجزائرية.
ولعل الخطأ الأساسي الذي وقع فيه نظام 23 يوليو هو منع التعددية السياسية، وحل الأحزاب واعتماد نظام الحزب الواحد، بذريعة فساد التجربة الديمقراطية في العهد الملكي والحماية الإنجليزية. لقد دفعت مصر غاليًا ثمن هذه التسلطية الأحادية، وفق اعتراف أركان النظام الناصري أنفسهم. أما في المغرب، فقد أدت تدريجيًا التجربة الديمقراطية إلى تكريس حالة سياسية صحية، بحيث تجنبت البلاد مآسي الصدام العنيف والحروب الأهلية التي مرت بها مجتمعات عربية عديدة.
كان المرحوم محمد عابد الجابري يقول بعد رحيل الملك الحسن الثاني إنه حافظ للمغرب على وحدته ونظامه الديمقراطي، وهما مكسبان عزيزان قابلان دومًا للتحسين والتوطيد، في حين أن دولًا عربية كثيرة لم تنجح في تدعيم هويتها الوطنية ولم تضع شعوبها على سكة الاختبار الديمقراطي الحر.
في سنة 2000، حضرت في الجزائر ندوة مهمة حول الأوضاع السياسية العربية، وكان الحديث أوانها مركزًا حول مسالك وخيارات الانتقال الديمقراطي الآمن في العالم العربي. أذكر حينها أن زعيم التيار الناصري المصري الوزير الأسبق المرحوم ضياء الدين داوود اعترف أن الحركات القومية أخطأت في رهانها على الجيوش في مقابل القوى المدنية التي كانت تشكك في ولائها الوطني وتتهمها بالعمالة للخارج. وقد ختم قوله بأن الأفق الديمقراطي هو الخيار المستقبلي الوحيد للحركات القومية إن أرادت أن يكتب لها البقاء.
لقد كان المغرب في تلك الفترة يعيش تجربة ما سمي بالتناوب التوافقي، وهو عهد الحكومة الائتلافية التي يرأسها الزعيم الاشتراكي المرحوم عبد الرحمن اليوسفي. ولقد ذكر وقتها أحد المقربين من اليوسفي أن التجربة التي يمر بها المغرب هي أول تجربة للانتقال السياسي السلمي في العالم العربي، ولم تكن لتتحقق لولا الحلف المتجدد بين المؤسسة الملكية التي اختارت طواعية تسليم السلطة للمعارضة والقوى السياسية التي إن عارضت الحكومات التنفيذية إلا أنها ظلت على ولائها للملك بصفته الحكم الأعلى في الحياة السياسية.
أذكر أن مؤتمر الجزائر اعتبر أن الدرس المغربي يقدم نموذجًا للانتقال السياسي الناجح في العالم العربي، بما تحقق له من شرطين أساسيين هما: الإجماع الشامل على الشرعية العليا للحكم، والتوافق الوطني حول مشروط الإصلاح والتغيير.
قد يأخذ الإجماع على الشرعية في النظام غير الملكي شكل الولاء للمؤسسات السياسية العليا التي هي محور السيادة الوطنية المطلقة، في حين يكون التوافق الوطني قائمًا على إجراءات وسبل الانتقال الديمقراطي المرحلي والمتدرج الذي هو المفتاح للسلم الأهلي والمدني.
ذلك هو الدرس الراهن من دروس ثورة الملك والشعب.