الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

جدل القومية في مشروع النهضة العربية بقلم المفكر المصري حسن نافعة، عضو مجلس الأمناء في منظمة النهضة (أرض)

مشاركة

حين بدأ الاحتكاك بين الشرق والغرب، عبر الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر، متجهًا إلى مصر أولًا ثم إلى الشام بعد ذلك، لم يكن هناك “عالم عربي” بالمعنى المتعارف عليه اليوم، حيث كانت جميع الأقاليم الناطقة باللغة العربية في ذلك الوقت تشكل جزءًا لا يتجزأ من إمبراطورية إسلامية أوسع، يقودها خليفة عثماني من مقره في مدينة القسطنطينية، العاصمة الإمبراطورية آنذاك، وهو الاحتكاك الذي أدى إلى طرح السؤال التالي: “لماذا تقدموا هم وتخلفنا نحن؟”، على النحو الذي تحدثنا عنه تفصيلًا في مقالنا السابق. لذا، يمكن القول إن “سؤال النهضة” هذا بدا موجهًا إلى المسلمين كافة، ومنهم العرب، أي إلى العقل الجمعي الإسلامي وليس إلى العقل العربي وحده، ومن ثم فلم يكن غريبًا أن يحمل الكتاب الذي ألفه المفكر اللبناني الأصل، شكيب أرسلان، والملقب ب “أمير البيان العربي”، عنوان: “لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟”. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن البحث عن إجابة لهذا السؤال المحوري اتجه تلقائيًّا ناحية الدين، ومن ثم بدأ بطرح قضية الإصلاح أو التجديد الديني باعتبارها القضية الأولى بالرعاية، واعتبرها الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى النهضة واللحاق بركب التقدم. غير أن البحث في هذا الاتجاه ما لبث أن تشعب وتفرع بمرور الوقت، واتجه نحو دروب أخرى موازية، وليس بالضرورة متقاطعة، خاصة بعد ازدهار الفكر القومي في أوروبا اعتبارًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما أفرزه هذا الفكر من حركات وتيارات قومية وحدوية تمكنت من تحقيق الوحدة وبناء الدولة القومية في دول أوروبية عديدة، خاصة في دولتين أوروبيتين كبيرتين، هما إيطاليا وألمانيا، كانتا منقسمتين إلى إمارات عديدة متصارعة.

 لم يقتصر تأثير المد القومي الأوروبي المتصاعد على الدارسين العرب في أوروبا، وإنما امتد ليشمل الدارسين الأتراك الذين بدأت تنتشر بين صفوفهم أيضًا نزعة قومية “طورانية” تستهدف توحيد كافة الشعوب من أصول تركية تحت علم واحد، بالتوازي مع اشتداد حركة “تتريك” تنادي بقصر الوظائف العليا في الامبراطورية العثمانية على العنصر التركي وحده، دون غيره من الأجناس والعناصر الأخرى المنضوية تحت لواء هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، ومنهم الجنس أو العنصر العربي. بعبارة أخرى، يمكن القول إن التفاعل بين الفكر القومي المتنامي في أوروبا، من ناحية، وظهور القومية الطورانية وحركة التتريك، من ناحية أخرى، ساهم في خلق بيئة مواتية لولادة وازدهار فكر “قومي عربي” يرى أن التاريخ المشترك والثقافة الموحدة بين الشعوب الناطقة باللغة العربية، يؤسسان لتشكيل أمة متميزة ومستقلة بذاتها، يحق لها أن تقيم دولتها الموحدة والمستقلة.

 في هذا السياق، ظهر جيل أول من رواد الفكر العربي، من أمثال: ساطع الحصري، وزكي الأرسوزي، ومحمد عزة دروزة وساطع الحصري وغيرهم، كان له تأثير كبير في إعادة تشكيل وعي النخب والشعوب العربية، وتأسيس حركات قومية عربية، نجحت في النهاية في إشعال ما سمي ب “الثورة العربية الكبرى” إبان الحرب العالمية الأولى،  وهي الثورة التي سعت إلى فصل العالم العربي عن الإمبراطورية العثمانية المتهالكة في ذلك الوقت، وإقامة نواة الدولة العربية الموحدة في المشرق العربي. ورغم الفشل الذي منيت به هذه الثورة، لأسباب عديدة لا يتسع المجال للتفصيل فيها هنا، إلا أن الفكر القومي العربي راح يواصل ازدهاره ويمارس تأثيره على أرض الواقع داخل العديد من الأقطار العربية، إلى أن أصبح هو التيار السياسي الأوسع والأكثر انتشارًا في العالم العربي، خاصة بعد قيادة مصر الناصرية له خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

انشغل الفكر القومي العربي، خاصة في مراحل انطلاقته الأولى، بمحاولة إثبات مقولة مفادها أن الشعوب الناطقة باللغة العربية تشكل في مجموعها أمة واحدة، وأن وعيها بهذه الحقيقة هو وحده الذي سيمكنها من فرض الوحدة على حكامها، حتى ولو لم يكونوا راغبين أو لهم مصلحة في تحقيق هذه الوحدة، وأن إقامة الدولة العربية الموحدة هو السبيل الوحيد المتاح لنهضة الأمة العربية والتحاقها بركب التقدم. وعندما اشتد عود الحركة القومية العربية المتأثرة بهذا الفكر، خاصة بعد أن آلت قيادتها لمصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ونجحت في تحقيق، بل وفرض الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، بدأ الفكر القومي العربي يتجه نحو بحث ماهية الشروط والعوامل الذاتية والموضوعية التي يتعين توافرها لنقل قضية الوحدة العربية من نطاق الرؤية الأيديولوجية والحلم، إلى نطاق الحركة والواقع المعاش، وظهرت نظريات مختلفة، منها نظرية “الدولة القاعدة” على سبيل المثال، ويقصد بها الدولة العربية الكبيرة المؤهلة للعب دور القاطرة في حركة الوحدة العربية والاندفاع بها نحو تحقيق الوعي المنشود في أقرب وقت ممكن، دونما انتظار لاستكمال صيرورة الوعي الشعبي بالوحدة العربية كحتمية تاريخية، وكان يقصد بالدول القاعدة هنا، بطبيعة الحال، مصر بزعامة جمال عبد الناصر.

غير أن انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، بعد أقل من أربع سنوات على قيامها، واهتزاز صورة النظام الناصري بشدة بعد الهزيمة الموجعة التي تلقاها على يد إسرائيل،  دفعا الفكر القومي العربي للقيام بمراجعات عديدة والتركيز على قضايا إشكالية أخرى ظهرت من خلال الممارسة، كالعلاقة بين القومية والديمقراطية وغيرها، ما أدى إلى طرح عشرات الأسئلة الجديدة  ومنها، على سبيل المثال وليس الحصر: هل يمكن للوحدة العربية أن تتحقق بقرارات فوقية،  أي بقرارات صادرة عن سلطات سياسية غير منتخبة من شعوبها، أم أن ضمانات الاستقرار والاستمرارية لدولة الوحدة المنشودة تتطلب مشاركة الشعوب العربية في صنع كافة القرارات المتعلقة بها؟ وهل الأفضل البدء بالوحدة السياسية والاندماجية الكاملة، مثلما حدث في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، أم أن الحكمة تقتضي التدرج في العملية الوحدوية، بحيث تبدأ بخطوة صغيرة مدروسة، وربما بعدد محدود من الدول العربية المركزية، ثم تتسع فيما بعد لتشمل محاولة تحقيق التكامل في مختلف المجالات الفنية، خاصة المجالات الاقتصادية، ثم تتدرج تصاعدًا إلى أن تنتهي بالوحدة السياسية، سواء من خلال الشكل الفيدرالي أو الكونفدرالي…  إلخ.

على صعيد آخر، كان لوفاة جمال عبد الناصر المفاجئة، وتولي أنور السادات قيادة الدولة المصرية من بعده، تأثيرات هائلة ليس فقط على الفكر القومي فقط، وإنما على التيار والحركة القومية العربية ككل، وذلك من خلال زاويتين على الأقل:

 الزاوية الأولى: حين قرر السادات الإفراج عن جماعة الإخوان المسلمين وسمح للتيار الإسلامي ككل بممارسة العمل السياسي، اعتقادًا منه أن تحالفه مع هذا التيار سيمكنه من تفكيك إرث عبد الناصر السياسي والاجتماعي، والذي رأى فيه عقبة كأداء تحول دون تمكينه من إحداث تغييرات كبرى، على صعيدي السياسات الداخلية والخارجية، كان يرى أنها باتت ضرورية لوضع رؤيته الخاصة موضع التنفيذ. فالسماح للتيار الإسلامي بالعمل السياسي المباشر، بل وتشجيعه إلى حد تحريضه ضد التيارات القوية واليسارية، ساهم كثيرًا في إضعاف التيار القومي، بل وفي التشكيك في جدوى الفكرة القومية ذاتها. فهذا التيار لا يرى في القومية، سواء قامت على العنصر أو على وحدة الثقافة والتاريخ، ركيزة لبناء الأمم، ويعتقد أن وحدة الدين، خاصة بين المنتمين للدين الإسلامي، هي الأساس. ولأنه يعتقد أنه لم يكن للدول العربية وجود في أي مرحلة تاريخية سابقة على الإسلام، فهو لا يعترف بشيء اسمه القومية العربية أو الأمة العربية الواحدة، وإنما هناك فقط أمة إسلامية وجدت بالفعل وتوحدت تحت راية الخلافة الإسلامية التي ينبغي أن تعود لتجسيد وحدة هذه الأمة. وقد أدى الجدل المثار حول هذا المحور إلى بروز ما أصبح يعرف بإشكالية الهوية أو تضارب الهويات في العالم العربي.

الزاوية الثانية: حين أقدم السادات على زيارة القدس في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977، فاتحًا بذلك الطريق أمام خروج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، بالتوقيع على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل في آذار/مارس 1979. وكان لهذا التوجه تأثير كبير على القضية الفلسطينية التي كان التيار القومي يعتبرها قضية العرب الأولى، ويرى فيها التجسيد الحي على وجود مصدر تهديد مشترك للأمة العربية كلها، ممثلًا في المشروع الصهيوني الذي يستهدف إقامة دولة يهودية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات، وبالتالي يهدد كافة الشعوب العربية وليس الشعب الفلسطيني وحده. وفي هذا السياق بدأت تطرح إشكالية جديدة تتعلق بموقع القضية الفلسطينية في المشروع القومي العربي، سواء على الصعيد الفكري أو على الصعيد الحركي، وتثار أسئلة جديدة أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر: هل يتعين تحقيق الوحدة العربية أولًا حتى يمكن مواجهة التهديد المشترك الذي يمثله المشروع الصهيوني؟ أم أن القضية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني وحده؟

             أخلص مما تقدم إلى أن ظهور وتنامي التيار القومي، بشقيه الفكري والحركي، خاصة منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن عقّد كثيرًا من “سؤال النهضة” وأضاف إليه إشكاليات جديدة. فبعد أن كانت قضية النهضة، وما تتطلبه من ضرورة اللحاق بالشعوب المتقدمة، تنحصر أساسًا، على الأقل بالنسبة للجيل الأول من الرواد، في موضوع الإصلاح الديني وما يتطلبه من تحرير العقل من الخرافات والشوائب التي لحقت به نتيجة الفهم الخاطئ للدين، ظهرت إشكاليات جديدة تتعلق بعلاقة الفكر النهضوي بقضايا الهوية، والوحدة العربية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية…  إلخ، وهي القضايا والإشكاليات التي سنحاول تفكيكها، أو على الأقل ما نستطيع منها في مقالات قادمة.