تكفي نظرة عابرة على الأوضاع الراهنة في العالم العربي كي يتولد لدى كل مواطن مهموم بقضايا أمته شعور عميق بالحزن على ما آل إليه حال هذا العالم مترامي الأطراف، وبالقلق في الوقت نفسه على ما قد يصير إليه، خاصة إذا استمرت قضاياه تدار وفق نفس النهج وأوضاعه تسير على نفس المنوال. فمعظم الشعوب العربية تعيش أوضاعًا أقل ما يمكن أن توصف به أنها تعيسة وبائسة، إما بسبب ما يعانيه بعضها من صراعات وحروب أهلية أدت إلى نزوح وتشريد وهجرة ومقتل الملايين من مواطنيه، أو بسبب ما يعانيه بعضها الآخر، خاصة شعوب الدول المكتظة نسبيًّا بالسكان والشحيحة الموارد، من جوع وفقر وغلاء معيشة إلى الحد الذي يدفع بنسبة كبيرة من شبابه إلى الرحيل بعيدًا عن الأوطان وركوب قوارب الموت بحثًا عن فرصة لحياة أفضل في بلاد غير مرحبة، أو بسبب حالة الخوف التي أمسكت بتلابيب أغلب الشعوب العربية نتيجة بطش حكامها واستبدادهم والزج بمعارضيهم داخل السجون والمعتقلات. أما إذا نظرنا إلى العالم العربي من مرآة الأنظمة الحاكمة، فسوف نجد أن معظمها لا يمثل شعوبه ولا يتمتع بالحد الأدنى من الكفاءة المهنية المطلوبة. ولأنها لم تصل إلى السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، فمن الطبيعي أن تدرك أن بقاءها واستمرارها يتوقفان إما على دعم قوى خارجية أو على سطوة أجهزتها الأمنية في الداخل، أو على كليهما معًا، وأن تنشغل بجمع وتكديس الثروات أكثر من انشغالها بأمن ورفاهية شعوبها. فإذا نحينا أوضاع الشعوب العربية وأوضاع أنظمتها الحاكمة جانبًا وحاولنا النظر إلى أوضاع النظام الإقليمي العربي ككل، عبر مرآة إطاره المؤسسي الرسمي المتمثل في جامعة الدول العربية، فسوف نجد أنها وصلت إلى حالة يرثى لها من العجز والهوان، وأن الجامعة العربية نفسها أصبحت أشبه بالرجل العليل الذي دخل غرفة الإنعاش وبدأ يصارع الموت فعلًا على مرمى ومسمع من ورثته الذين يتعجلون إعلان وفاته رسميًّا كي يحصلوا على نصيبهم من التركة.
انطلاقًا من هذا التوصيف العام للأوضاع العربية الراهنة، وتأسيسًا عليه، يمكن تصنيف الدول العربية إجمالًا إلى ثلاث فئات رئيسية:
الفئة الأولى: تمثلها مجموعة الدول التي تعيش في الوقت الراهن حالة متقدمة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وانفجرت صراعاتها الداخلية، بسبب عجز نخبها السياسية والفكرية عن العثور على صيغة مؤسسية تضمن حدًّا أدنى من التعايش السلمي ومن تداول السلطة ومن التوزيع العادل للثروة بين المكونات الاجتماعية المختلفة لشعوبها، ومن ثم فقد انفتح الباب أمام تدخل قوى خارجية، إقليمية ودولية، في شئونها الداخلية. وتضم هذه المجموعة دولًا مثل سوريا، وليبيا، واليمن، والصومال، والعراق ولبنان.
الفئة الثانية: تمثلها مجموعة الدول التي تعاني من الفقر و شظف العيش لأسباب كثيرة، خاصة وأن مواردها تبدو محدودة نسبة إلى تعداد السكان فيها، لكنها تعيش في الوقت نفسه حالة استقرار ظاهري على الصعيدين الأمني والسياسي، نتيجة سيطرة الأجهزة الأمنية على مختلف مفاصل السلطة ومصادر الثروة. وتبدو مصر هي النموذج الأكثر وضوحًا في هذه المجموعة.
الفئة الثالثة: دول قليلة السكان لكنها غنية بمواردها الطبيعية، خاصة النفطية، ومن ثم تستطيع تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي الناجم عن القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية للغالبية العظمى من سكانها، بما في ذلك احتياجات الطبقات الواقعة في أدنى السلم الاجتماعي، لكنها تعاني في الوقت نفسه من التوتر وعدم الاطمئنان، ربما بسبب إحساسها الدائم بأنها أصبحت محط طمع وحسد من جانب الآخرين، خاصة في ظل عدم استقرار واضطراب البيئة الإقليمية المجاورة، ما يدفع أنظمتها الحاكمة للاعتماد على القوى الخارجية في تحقيق أمنها. وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي هي المثال الأوضح على هذه المجموعة.
يتضح من هذا التصنيف أن افتقاد الشعوب العربية للثقة في أنظمتها الحاكمة يمثل القاسم المشترك الأعظم بين كافة الدول العربية: كبيرها وصغيرها، غنيها وفقيرها، قويها وضعيفها. ولأن معظم الشعوب العربية أدركت هذه الحقيقة المرة، فقد سعت لتغييرها من خلال موجات متعاقبة من الثورات و الانتفاضات و الاحتجاجات الجماهيرية التي انطلقت في نهاية 2010 وبداية 2011 وما تزال ارتداداتها وتداعياتها تتوالى حتى الآن. ورغم عدم تمكنها حتى الآن من إنجاز الأهداف التي سعت لتحقيقها، والتي تمحورت حول العيش والحرية والكرامة الإنسانية، إلا أن الموجات المتعاقبة من الانتفاضات الشعبية التي اندلعت بالتوازي في عدد كبير من الدول العربية أثبتت أمرين على جانب كبير من الأهمية:
الأمر الأول: تعميق الشعور لدى مختلف الشعوب العربية بأنها جميعًا تنتمي إلى أمة عربية مصيرها واحد ومستقبلها واحد، وأن أنظمتها الحاكمة هي العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكينها من تحقيق أمانيها المشتركة في العيش، والحرية، والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
الأمر الثاني: الحاجة الماسة إلى عقد اجتماعي جديد يربط، من ناحية، بينها وبين أنظمتها الحاكمة، ويستهدف تحديد الحقوق والواجبات بين هذين الطرفين المتعاقدين، كما يربط، من ناحية أخرى، بين الحكومات العربية بعضها البعض، ويستهدف صياغة ميثاق جديد لجامعة الدول العربية يستهدف حماية الأمن القومي العربي في ظل نظام دولي وإقليمي متغير.
وفي تقديري أن حالة الفوضى السائدة في العالم العربي حاليًّا تعود في جانب كبير منها إلى ارتدادات ما بعد زلزال الانتفاضات التي ما تزال قابلة للتكرار في العديد من الدول العربية في المرحلة القادمة، وأن استقرار الأوضاع في هذا العالم المترامي الأطراف لن يتم إلا إذا نجحت الحكومات العربية في:
1- صياغة عقد اجتماعي جديد مع شعوبها المتطلعة إلى مزيد من الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. فهذه الشعوب باتت في حاجة ماسة إلى مزيد من الحريات، كي تتمكن من المشاركة بفاعلية أكبر في إدارة الشأن العام عبر آليات تضمن تداول السلطة بين مختلف النخب السياسية والفكرية، وهي في حاجة ماسة إلى مزيد من الكرامة الإنسانية، كي تتمكن من التمتع بحد أدنى من الحقوق السياسية والمدنية، وهي حقوق لا يمكن أن تكفل إلا في ظل دولة القانون واستقلال القضاء، وهي في حاجة إلى مزيد من العدالة الاجتماعية، كي تتمكن من التمتع بحد أدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يصعب كفالتها إلا في إطار دولة تسعى بجدية إلى القضاء على الفساد وتعمل بهمة على إزالة الفوارق بين الطبقات أو، على الأقل، تضييق الفوارق الهائلة القائمة بينها حاليًّا.
2- صياغة عقد اجتماعي جديد فيما بينها، يستهدف إقامة إطار مؤسسي لنظام إقليمي عربي أكثر فاعلية من الإطار الذي تمثله جامعة الدول العربية حاليًّا. وأظن أننا لسنا في حاجة هنا إلى أدلة إضافية لإثبات أن الجامعة العربية فشلت في مواجهة كافة التحديات التي اعترضت طريق الأمة العربية في مسيرتها الصعبة نحو تحقيق الاستقلال والأمن والرفاهية لشعوبها. فقد فشلت في مواجهة التحدي الرئيسي الذي يمثله المشروع الصهيوني، وبالتالي لم تستطع تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه، وفشلت في إقامة علاقات سوية مع دول الجوار الإقليمي، خاصة مع كل من إيران و تركيا، تساعد على الحيلولة دون تمكين دول هذا الجوار من التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية. وفشلت في تحقيق حد أدنى من التكامل الاقتصادي العربي يضمن للدول العربية تحقيق حد أدنى من الاكتفاء الذاتي، خاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي العربي، أو المشاركة بفاعلية في إدارة النظام الاقتصادي العالمي رغم ما تملكه الدول العربية من موارد وإمكانات هائلة، مادية وبشرية.
لقد أظهرت فعاليات مسابقة كأس العالم لكرة القدم، والتي نظمت دولة قطر دورتها الحالية بنجاح واقتدار، أن الشعوب العربية مازالت تؤمن إيمانًا راسخًا بانتمائها إلى أمة عربية واحدة، وأنها ما تزال ملتفة حول الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وبالتالي ترفض تطبيع الأنظمة العربية لعلاقتها مع إسرائيل، وبالتالي فقد أصبحت الكرة الآن في ملعب الحكومات وليست في ملعب الشعوب. فمتى تتحرك الحكومات العربية لصياغة عقد اجتماعي جديد سواء فيما بينها، من أجل إقامة نظام إقليمي عربي أكثر فاعلية، أو بينها وبين شعوبها، لإطلاق كل الطاقات والاستفادة من كل الخبرات؟