تستعد الرياض لاستضافة القمة العربية القادمة المقرر عقدها يوم 19 أيار/مايو القادم. وحسب التقويم الرسمي المعتمد في جامعة الدول العربية فإن هذه القمة ستكون “الدورة العادية الثانية والثلاثين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة”. غير أن عدد القمم العربية التي عقدت منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 حتى الآن تجاوز خمسين قمة في الواقع، ما يعني أن القمم العربية الأخرى، والتي يبلغ عددها ما يقرب من عشرين قمة، لم تكن “دورات عادية لمجلس جامعة الدول العربية”، ولكنها كانت اجتماعات “استثنائية” أو “طارئة” لقادة الدول العربية فرضتها أوضاع غير عادية، ما يعني أن ظاهرة القمم العربية أملتها في البداية أحداث وظروف خاصة، وسلكت مسارات ودروبًا طويلة ومتعرجة قبل أن تتمكن من التحول في النهاية إلى إحدى المؤسسات الرسمية لجامعة الدول العربية. فخلال الفترة الممتدة منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 وحتى نهاية القرن العشرين انعقدت 24 قمة عربية، اعتبر نصفها قممًا “استثنائية” أو “طارئة”، بينما اعتبر نصفها الآخر، مجازًا في حقيقة الأمر، “دورات عادية لمجلس الجامعة العربية على مستوى القمة”. ولتيسير فهم واستيعاب هذه الحقيقة، ينبغي علينا التمييز بين ثلاث مراحل مختلفة في تاريخ القمم العربية:
المرحلة الأولى: والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة اللامبالاة أو عدم الاكتراث بانعقاد القمم العربية، وفيها بدت دورية انعقاد القمم العربية أمرًا خارج نطاق التفكير الرسمي العربي، ومن ثم غير وارد أصلًا. وتمتد هذه المرحلة منذ بداية نشأة الجامعة العربية عام 1945 وحتى انعقاد قمة القاهرة عام 1964، فخلال هذه الفترة الطويلة التي تمتد إلى ما يقرب من عشرين عامًا، لم تنعقد مؤتمرات عربية على مستوى القمة إلا مرتين فقط، أي بواقع مرة كل عشر سنوات في المتوسط، الأولى في أنشاص عام 1946، لبحث تطورات الوضع في فلسطين عقب الإعلان عن عزم بريطانيا إحالة القضية الفلسطينية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والثانية في بيروت عقب وقوع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وقد اعتبر انعقاد القمم العربية خلال هذه المرحلة بمثابة إجراء استثنائي لا يمكن اللجوء إليه إلا في ظروف طارئة ولا تربطه بالجامعة العربية علاقة مؤسسية بالضرورة. فلم تكن الجامعة العربية هي الجهة الداعية رسميًّا للقمة في الحالتين. ومع ذلك يلاحظ أن عبد الرحمن عزام، أول أمين عام للجامعة العربية، كان هو في الواقع الرأس المدبر خلف الكواليس والدينامو الحقيقي المحرك لمؤتمر القمة الأول في أنشاص.
المرحلة الثانية: والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة الانعقاد الدوري المتعثر، وفيها بذلت محاولات جادة لتحويل القمة العربية إلى إحدى مؤسسات الجامعة العربية التي ينبغي عليها أن تنعقد بصورة دورية ومنتظمة، ولكن دون الحرص على أن تقترن بالضرورة بعملية قانونية تستهدف تعديل الميثاق أو إضافة ملحق جديد له. وتمتد هذه المرحلة من عام 1964، الذي شهد انعقاد قمة القاهرة بمبادرة من الرئيس عبد الناصر لبحث الرد العربي على المشروعات الإسرائيلية لتحويل مياه نهر الأردن، وحتى عام 2000، الذي شهد انعقاد قمة القاهرة أيضًا، ولكن بدعوة من الرئيس مبارك هذه المرة، لبحث ما أصاب “عملية السلام” من انهيار عقب فشل قمة كامب ديفيد الثانية واندلاع انتفاضة الأقصى. وشهدت هذه المرحلة انعقاد 22 مؤتمرًا من مؤتمرات القمة، أي بواقع مؤتمر كل عام ونصف في المتوسط. غير أن فكرة الدورية والانتظام لم تتحقق بالكامل طوال هذه المرحلة، رغم الإلحاح الشديد عليها واتخاذ عشرات القرارات بشأنها من جانب العديد من مؤتمرات القمة ذاتها. وبينما شهدت بعض الأعوام انعقاد مؤتمرين للقمة في عام واحد (عامي 1964 و1990 على سبيل المثال)، فإن فترات ما بين انعقاد القمم العربية طالت لأكثر من سنتين في حالات كثيرة، ووصلت إلى أكثر من ثلاث سنوات في بعض الأحيان (ما بين مؤتمر فاس الثاني عام 82 ومؤتمر الرباط في آب/أغسطس عام 1985، وما بين مؤتمري القاهرة في حزيران/يونيو 1996 وتشرين الأول/أكتوبر 2000) بل إنها وصلت في إحدى الحالات إلى أكثر من ست سنوات. (ما بين انعقاد مؤتمري القاهرة في 1990 و1996). وتعتبر حقبة التسعينيات من القرن الماضي هي أسوأ فترات العمل العربي المشترك خلال هذه المرحلة، حيث لم تنعقد القمة العربية خلالها إلا مرة واحدة عام 1996.
المرحلة الثالثة: والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة “مأسسة القمم العربية” اعتبارًا من عام 2000، وفيها تم تقنين دورية انعقاد القمم العربية. وقد شهدت هذه المرحلة، ولأول مرة في تاريخ الجامعة العربية، انتظام اجتماعات القمة العربية وتحولها بالفعل إلى اجتماعات دورية عادية لمجلس الجامعة على مستوى القمة، تعقد مرة واحدة كل عام خلال شهر آذار/مارس، وذلك بعد تعديل ميثاق جامعة الدول العربية من أجل تحقيق هذا الغرض. وهنا أيضًا يلاحظ أن الدول العربية لم تتمكن من الالتزام بالانعقاد الدوري للقمة كل عام، حيث هناك أعوام كثيرة خلت من هذه الانعقاد (أعوام 2011 و2020 و2021 على سبيل المثال).
تقودنا أي قراءة موضوعية متأنية لتاريخ القمم العربية إلى استخلاص ثلاث سمات رئيسية. أولها: سيطرة القضايا المتعلقة بالصراع العربي-الإسرائيلي على معظم أعمال القمم العربية. فمن الواضح أن الأغلبية الساحقة لهذه القمم، وعبر كافة المراحل، كرست معظم جهدها لمعالجة أمور تتصل على نحو مباشر أو غير مباشر بالصراع العربي-الإسرائيلي. وثانيها: إن هذه القمم جاءت في معظمها كردود أفعال لمبادرات أو لأزمات أثارها آخرون وليس تحسبًا أو تحرزًا أو استعدادًا لهذا النوع من المبادرات أو الأزمات. وثالثها: إن القرارات الناجمة عنها لم تكن تستهدف معالجة الأزمات التي دعت إلى عقدها بقدر ما كانت تستهدف تخفيف حدة الضغوط الناجمة عنها في مواجهة الأنظمة العربية. وكان من الصعب، في سياق كهذا، تحول القمم العربية إلى وسيلة لمواجهة ومعالجة مظاهر الخلل في بنية النظام العربي نفسه، أو القيام باتخاذ إجراءات وقائية للحيلولة دون اندلاع أزمات حادة تضر بالعمل العربي المشترك في المستقبل، أو إعداد الخطط والبرامج الكفيلة بمواجهة وحل مثل هذه الأزمات في حال تفاقمها. فضلًا عن صعوبة إيجاد آليات فعالة لمتابعة تنفيذ القرارات الصادرة عن هذه القمم. إذ سرعان ما كانت الأحداث الإقليمية والدولية تتجاوز مثل هذه المقررات ويصبح على القمم العربية أن تبحث في كل مرة عن نقطة انطلاق جديدة لمعالجة قضايا وأحداث تتغير وتيرتها وإيقاعاتها بسرعة. وفي تقديري أن فاعلية النظام العربي لم تتوقف أبدًا على وجود أو عدم وجود مؤسسة للقمة العربية، أو حتى على انعقاد أو عدم انعقاد هذه القمم بطريقة منتظمة. فلم تثبت أي دراسة جادة في الواقع وجود علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين حيوية النظام العربي ومؤسسة القمة. فقد استطاع النظام العربي، على سبيل المثال، احتواء واحدة من أسوأ أزماته دون حاجة إلى أي قمة عربية حين رفض نظام عبد الكريم قاسم عام 1962 استقلال الكويت وهدد بضمها بالقوة المسلحة. وفي المقابل فقد كانت مؤسسة القمة تبدو في أوج نشاطها وتألقها حين قرر صدام حسين غزو الكويت عام 1990. فقد انعقدت ثلاث قمم عربية في ثلاث سنوات متتالية في تشرين الثاني/نوفمبر1987، وفي حزيران/يونيو 1988، وفي أيار/مايو 1990، دون أن تتمكن من تهيئة الأجواء العربية الكفيلة بتجنب أزمة احتلال الكويت التي عصفت بالنظام العربي. وحين عاد مؤتمر القمة للانعقاد مرة ثانية عام 1990 لبحث الأزمة المترتبة على هذا الغزو لم يتمكن من الحيلولة دون تدويلها.
على صعيد آخر، يلاحظ أن تقنين آلية الانعقاد الدوري للقمة لم يكن كافيًا في حد ذاته لوقاية النظام العربي من الكوارث التي تعرض لها، ومع ذلك كله فليس من الإنصاف التهوين من أهمية القرار الذي اتخذته قمة القاهرة لعام 2000 .فقد أصبح القادة العرب ملزمين ومضطرين للالتقاء معًا مرة واحدة على الأقل كل عام. صحيح أنهم لم يتمكنوا من التنفيذ الصارم لهذا الالتزام في كل الأوقات، لكنهم لا يستطيعون التحلل منه أو التخلي عنه بسهولة. وقد أثبتت الأحداث أن تقنين دورية القمة خلق وضعًا جديدًا في شكل العمل العربي المشترك. غير أن ما نود أن نلفت النظر إليه هنا أن دورية الانعقاد لا تكفي لإحداث نقلة نوعية تلقائية في أداء العمل العربي المشترك. فما لم يتمكن القادة العرب من استغلال هذه الآلية لإعادة هيكلة البنية المؤسسية لمنظومة العمل المشترك وفق رؤية وخطط وبرامج زمنية محددة لتحقيق التكامل العربي في كافة المجالات، فسوف تتحول هذه الآلية بمرور الوقت إلى مجرد أداة بيروقراطية تكرس الواقع المترهل القائم.