شهد العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين سلسلة من المشروعات والتجارب الوحدوية، المتباينة الأهداف والدوافع والمآلات، يمكن تصنيفها إلى:
أولًا: مشروعات أُجهضت في المهد قبل أن تتجسد حقيقة واقعة على الأرض. والمثال الواضح على هذا النوع، هو مشروع الوحدة بين مصر والعراق وسوريا، والذي جرت مفاوضات استهدفت إقامته عام 1963، أي بعد فترة وجيزة من فشل الانقلاب السوري الذي أطاح بتجربة الوحدة بين مصر وسوريا. لكن هناك مشروعات وحدويّة عديدة أخرى يمكن إدراجها ضمن نفس التصنيف، كالمشروعات المختلفة التي طرحها العقيد القذافي إبان فترة حكمه، وكانت ليبيا قاسمًا مشتركًا فيها جميعًا، مثل: مشروع الوحدة بين ليبيا ومصر والسودان، ومشروع الوحدة بين ليبيا ومصر وسوريا (اتحاد الجمهوريات العربية)، ومشروع الوحدة بين ليبيا وتونس (الجمهورية العربية الإسلامية)، ومشروع الوحدة بين ليبيا والمغرب (الاتحاد العربي الإفريقي)… إلخ.
ثانيًا: تجارب وحدوية قامت بالفعل على أرض الواقع، لكنها لم تتمكن من الصمود إلا لفترة قصيرة، مثل: “الاتحاد العربي الهاشمي” الذي ضم المملكتين العراقية والأردنية وأعلن عن قيامه في 14 شباط/فبراير 1958 ثم انهار بعد أربعة أشهر فقط عقب قيام الثورة في العراق في 14 تموز/يوليو 1958، أو لفترة أطول نسبيًّا، مثل تجربة (الجمهورية العربية المتحدة) التي أعلن عن قيامها بين مصر وسوريا في 22 شباط/فبراير عام 1958 قبل أن تنهار في 28 أيلول/سبتمبر عام 1961 عقب انقلاب عسكري سوري أطاح بها.
ثالثًا: تجارب وحدوية قامت بالفعل وما تزال صامدة حتى الآن، من حيث الشكل القانوني على الأقل، لكنها واجهت منذ البداية صعوبات وتحديات جمة أضعفتها وتهدد بانهيارها في أي لحظة، مثل تجربة الوحدة بين اليمن الشمالي والجنوبي التي أعلن عن قيامها في 22 أيار/مايو 1990، لكن الحرب الدائرة على الساحة اليمنية حاليًّا، والتي تجمع بين سمات الحرب الأهلية والحرب الإقليمية في الوقت نفسه، أحالت هذه التجربة الوحدوية إلى بقايا حطام.
رابعًا: تجارب وحدوية يمكن وصفها بالناجحة وتملك في الوقت نفسه كل مقومات وعناصر البقاء والاستمرار، ونموذجها الوحيد حتى الآن هو دولة “الإمارات العربية المتحدة”. فنحن هنا إزاء دولة اتحادية أعلن عن قيامها عام 1971، لكنها كانت في الأصل سبع إمارات منفصلة ومتنافسة، وأحيانًا متصارعة، هي: أبو ظبي ودبي والشارقة ورأس الخيمة وعجمان وأم القيوين والفجيرة، وكان يفترض أن تنضم إليها إمارتان أخريان، هما قطر والبحرين، شاركتا بالفعل في المرحلة الأولى من مفاوضات الوحدة، لكنهما قررتا الانسحاب من هذه المفاوضات في اللحظة الأخيرة، ومن ثم أصبحتا دولتين مستقلتين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن العالم العربي شهد في الوقت نفسه، وخلال نفس هذه الفترة تقريبًا، مشروعات استهدفت تحقيق شكل ما من أشكال التنسيق أو التكامل المؤسسي في المجالات السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية، سواء على مستوى النظام الإقليمي العربي أو على مستوى النظم الفرعية فيه. يدخل في هذا السياق مشروع إنشاء جامعة الدول العربية، التي تأسست عام 1945 وأصبحت منذ ذلك الحين بمثابة الإطار المؤسسي للنظام الإقليمي العربي الرسمي. كما يدخل في هذا السياق أيضًا مشروعات إقامة أطر مؤسسية خاصة ببعض النظم الإقليمية الفرعية، مثل مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس عام 1982، ومجلس التعاون العربي، واتحاد المغرب العربي اللذين تأسسا عام 1989… إلخ. بعض هذه الأطر انهار بعد فترة وجيزة من قيامه، مثل مجلس التعاون العربي الذي ضم مصر والعراق والأردن وانهار عقب الغزو العراقي للكويت عام 1990، وبعضها الآخر ما زال قائمًا من الناحية القانونية لكنه يعتبر في حالة موت سريري، مثل اتحاد المغرب العربي الذي قام بين المغرب والجزائر وليبيا وتونس وموريتانيا، لكن ما لبث النزاع المغربي الجزائري حول مشكل الصحراء الغربية أن أصابه بما يشبه الشلل التام. النموذج الوحيد الذي ما زال يتمتع ببعض الحيوية، رغم ما يواجهه من أزمات وتحديات من وقت لآخر، هو مجلس التعاون الخليجي الذي يضم ست دول خليجية هي: السعودية، والإمارات، والكويت، وسلطنة عمان، وقطر والبحرين، وينظر إليه في العالم العربي باعتباره “نادي الأغنياء”. ومع ذلك فقد تعرض هذا المجلس بدوره لهزة عنيفة، كادت تؤدي إلى انهياره، حين أقدمت أربع دول عربية، منها ثلاث دول أعضاء في المجلس، بفرض حصار كامل على إحدى دوله المؤسٍّسة وهي قطر!!
لا يتسع المجال هنا للتعرف على الأسباب التي أدت إلى انهيار أو استمرار بعض هذه المشروعات والتجارب، أو أسباب نجاح بعضها وإخفاق البعض الآخر، كما لا يتسع المجال هنا لتحليل مواطن القوة والضعف فيها، فهذا يحتاج إلى دراسة تفصيلية لكل مشروع أو تجربة وحدوية على حدة. غير أن الحالة العربية على هذا الصعيد تتسم بخصوصية شديدة، وتستدعي جملة من الملاحظات يمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بدلالة الظاهرة في حد ذاتها، أي ظاهرة الكثرة أو الغزارة في المشروعات والتجارب الوحدوية العربية. فنحن هنا إزاء ظاهرة فريدة، حيث لا يوجد، في حدود علمنا على الأقل، نظام إقليمي آخر في العالم يحتوي على مثل هذا الزخم والميل الطبيعي نحو إقامة مشروعات وتجارب وحدوية، سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي، رغم فشل الكثير منها. وأعتقد أن وجود مثل هذا الزخم يشكل في حد ذاته ظاهرة ينبغي التوقف عندها، ويؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الفكرة القومية العربية ما تزال حية في وجدان الشعوب العربية، رغم كل ما اعترض طريقها من تحديات داخلية وخارجية في مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها.
الملاحظة الثانية: تتعلق بطبيعتها. فجميع المشروعات والتجارب الوحدوية، الفاشلة منها والناجحة على حد سواء، تعد مشروعات وتجارب فوقية، بمعنى أنها نتاج مبادرات نخب حاكمة وليست نتاج شعوب مشاركة في صنع القرار، حتى في الحالات التي جرت فيها استفتاءات لاحقة، بدت جميعها شكلية.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بتنوع أشكالها القانونية. فبعض المشروعات الوحدوية العربية أخذ شكل المنظمات الدولية التقليدية، مثل جامعة الدول العربية. وبعضها الآخر أخذ شكل مشروعات التكامل الاقتصادي، مثل مجلس التعاون الخليجي، وبعضها الثالث أخذ شكل الدولة الاتحادية أو الفيدرالية، مثل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعضها الرابع أخذ شكل الوحدة الاندماجية أو الدولة المركزية التي تتركز فيها السلطات في يد شخص واحد، مثل تجربتي الوحدة المصرية السورية والوحدة اليمنية.. إلخ.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بالمآلات وأسباب الفشل المتكرر. وفي تقديري أن لكل تجربة، سواء أكانت فاشلة أم ناجحة، أسبابها الخاصة التي يجب أن تدرس بعناية، لكن، هناك أسبابٌ عامة داخلية وخارجية مشتركة. من أهم الأسباب الداخلية غياب الديمقراطية، وهامشية الدور الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني، وعدم أخذ مصالح الأقليات الدينية أو العرقية أو الطائفية في الاعتبار… إلخ. أما الأسباب الخارجية، فتدور في معظمها حول تبعية معظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي لقوى خارجية وعدم قدرة هذه الأنظمة على مواجهة التحديات المشتركة التي تواجه الشعوب العربية والتي تعجز أي دولة عربية بمفردها، مهما بلغت قوتها، أن تواجهها.
نخلص من هذه الملاحظات العامة إلى نتيجة أساسية مفادها أن العالم العربي شديد التنوع والتعقيد. فلا يستطيع أحد أن يجادل في عمق الروابط التي تربط بين شعوبه، خاصة الروابط الثقافية والتاريخية والتي يندر وجود مثيل لها في أي منطقة أخرى في العالم، لكن، هناك أيضًا فروق وتباينات هائلة بين البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، وهي فروق ينبغي أخذها في الاعتبار عند إقامة أي مشروع وحدوي وإلا واجهته تحديات هائلة يمكن أن تؤدي إلى انهياره، مثلما حدث في مرات كثيرة. لذا، لا يوجد بالضرورة نموذج سياسي أو قانوني موحد ينبغي الاقتداء به. فشكل الوحدة الذي يمكن أن يقام بين دولتين عربيتين متجاورتين، قد يختلف كثيرًا عن شكل الوحدة الذي يمكن يتم بين مجموعة حتى ولو كانت متجاورة وتقع داخل إقليم فرعي له سمات وقواسم خاصة مشتركة، كسوريا الكبرى، أو الهلال الخصيب، أو منطقة الخليج أو منطقة المغرب العربي أو وادي النيل… إلخ. ورغم التسليم بالحقيقة القائلة بأن الحدود السياسية القائمة بين العديد من الدول العربية حاليًّا هي حدود مصطنعة وموروثة عن الحقبة الاستعمارية، إلا أن هذه الحدود تحولت بمرور الزمن إلى حقائق راسخة على الأرض. لذا، ففي اعتقادي أن الادعاءات القائلة بأن “الدولة القطرية” تعد عقبة في طريق الوحدة العربية ومن ثم فلا يمكن للوحدة العربية أن تقام إلا على أنقاضها، تحتاج إلى مراجعة جادة وتبدو حقًّا يراد به باطل. فالدولة الوطنية هي الحقيقة القائمة الآن، ومن ثم يجب أن تكون هي الأساس الذي يتعين البناء عليه لإقامة حلم الوحدة العربية وفقًا للصيغة وبمعدلات السرعة التي ترتضيها الشعوب العربية المختلفة. وهنا، تتجلى أهمية الديمقراطية في بناء الوحدة العربية.