حين ظهرت “الحركة القومية العربية”، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كان “العالم العربي” بأكمله واقعًا تحت هيمنة الإمبراطورية العثمانية. ولأن هذه الحركة قامت استنادًا إلى فكرة جوهرية مفادها الإيمان بأن الشعوب الناطقة باللغة العربية تشكل أمة قائمة بذاتها يحق لها أن تقيم دولتها الموحدة والمستقلة، فقد كان من الطبيعي أن تسعى لتحقيق هدف مزدوج، الأول: “فصل” العالم العربي عن الإمبراطورية العثمانية، والثاني: “توحيد” أجزائه المبعثرة في كيان سياسي واحد. معنى ذلك أن “القومية العربية” كانت في بدايتها حركة انفصالية وتوحيدية في آن واحد، وأن العالم العربي لم تكن له “هوية” مستقلة، لأنه كان مدمجًا في هوية أوسع، هي “الهوية الإسلامية” التي جسدتها دولة “الخلافة” العثمانية، وأن الحركة القومية آلت على نفسها تمكين هذا الجزء من العالم من ترسيخ هويته العربية المستقلة. ولهذا السبب، ركز الرعيل الأول من رواد الفكر القومي العربي جهدهم البحثي على إبراز وشرح العوامل المؤسسة للفكرة القومية العربية، وتوضيح الأسانيد التي تدعوهم للاعتقاد بأن الشعوب الناطقة بالعربية تشكل “أمة” واحدة يحق لها إقامة دولتها القومية، شأنها في ذلك شأن الأمم الأوروبية التي تمكنت من تحقيق هذا الهدف خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولأن الفكر القومي الأوروبي، والذي تأثر به الفكر القومي العربي كثيرًا في بداية نشأته، كان منقسمًا إلى مدارس مختلفة، كالمدرسة الفرنسية التي تعتبر أن حرية الاختيار ووحدة الإرادة هما أساس نشأة الأمم، والمدرسة الألمانية التي ترى في عاملي الثقافة والتاريخ الأساس الأرسخ في تفسير نشأة الأمم، فقد كان من الطبيعي أن يتأثر الفكر القومي العربي بهذه الخلافات، وبالتالي أن تختلف كتاباتهم حول نشأة الأمة العربية. ومع ذلك، يلاحظ أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الرواد يرون أن اللغة العربية هما أكثر العوامل تأثيرًا في تشكيل الأمة العربية وصهر وحدتها القومية.
لم ينشغل رواد الجيل الأول من القوميين العرب بالبحث في أسباب ومظاهر التباين القائم بين الدول والشعوب العربية على أرض الواقع، خاصة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تصوروا أنه يكفي أن تستعيد الشعوب العربية وعيها بهويتها القومية، القائمة على أساس وحدة الثقافة والتاريخ المشترك، كي تتحقق الوحدة العربية تلقائيًّا ويتمكن العرب من إقامة دولتهم الموحدة تلقائيًّا بمجرد انسلاخهم عن الإمبراطورية العثمانية، وهو ما لم يحدث. صحيح أن ما أنتجه هؤلاء الرواد من فكر أثّر تأثيرًا بالغًا على التطورات السياسية التي شهدها العالم خلال الفترات اللاحقة، خاصة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. غير أن الدولة العربية الموحدة لم تقم، وفقدت الفكرة القومية الكثير من بريقها، بل ولم يكن العالم العربي أكثر انقسامًا، وتشرذمًا وخضوعًا للهيمنة الأجنبية مما هو عليه الآن. فكيف نفهم ما حدث؟
فالشعوب العربية اليوم لم يعد يجمعها هذا الشعور العميق بالانتماء إلى أمة واحدة، وإنما باتت تتنازعها هويات متعددة تستهدف إما إغراق العروبة في “هوية إسلامية” أوسع منها، بدعوى أن الشعوب الإسلامية تشكل في مجموعها “أمة واحدة” ينبغي أن تتوحد في دولة واحدة تحت راية “الخلافة”، أو تفتيت وحدتها الطبيعية إلى هويات فرعية تعود بها إلى مرحلة ما قبل الفتوحات الإسلامية، بدعوى أنّ لشعوب هذه المنطقة من العالم حضارات قديمة أعرق، كالحضارة الفرعونية أو الفينيقية أو البابلية… إلخ. بل وصل الأمر إلى حد الادعاء بأن قطاعات عريضة من شعوب هذه المنطقة من العالم بدأت ترى في انتماءاتها الطائفية أو القبلية رابطة أقوى وأهم من روابط الانتماء الوطني أو القومي أو الديني. عوامل كثيرة ساعدت على وصول العالم العربي إلى هذه الحافة الخطرة، ومنها:
أولًا: الضعف الذي أصاب حركة القومية العربية، خاصة بعد الهزيمة الموجعة التي تمكنت إسرائيل من إلحاقها بعدد من جيوش الدول العربية، خاصة مصر. ثم رحيل عبد الناصر نفسه بعد حوالي ثلاث سنوات من هذه الهزيمة وتولي السادات الذي تبنى سياسات داخلية وخارجية تتناقض كليًّا مع سياسات عبد الناصر.
ثانيًا: ترسّخ دعائم الدولة الوطنية (أو الدولة “القطرية” كما كان يطلق عليها دعاة القومية العربية). ففي بداية نشأة الفكر القومي العربي، ورغم تعرض بعض أقطار العالم العربي للاحتلال من جانب بعض القوى الاستعمارية الأوروبية (ثم تعرض معظمه للاستعمار الغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية)، إلا أن الدول العربية الحديثة التي نشأت في ظل الاستعمار الأوروبي ظلت هشة، وينظر إلى الحدود التي تفصل بينها باعتبارها “مصطنعة”، ومن ثم واجبة الإزالة لكي تقام بدلًا منها حدود الدولة الواحدة المعبرة عن الأمة العربية. الآن وبعض مضي أكثر من نصف قرن على حصول معظم الدول العربية على استقلالها السياسي والتفاف شعوبها حول علم واحد ونشيد واحد، ترسخت وتجذرت الدولة “القطرية” ومعها ترسخت وتجذرت “هوية وطنية” فرضها الأمر الواقع، مفسحة المجال أكثر أمام دعوات الفرعونية، والفينيقية والبابلية… إلخ.
ثالثًا: تنامي وتصاعد قوة التيارات المنتمية إلى “الإسلام السياسي” في معظم أنحاء العالم العربي، خاصة بعد هزيمة 1967، إذ عادت بقوة الأفكار المناهضة للفكرة القومية، باعتبارها فكرة علمانية ملحدة أو حتى عنصرية تتناقض مع الدين الإسلامي الذي يرى أن كل المسلمين يشكلون “أمة” قائمة بذاتها، عليها أن تتوحد في كيان سياسي واحد تحت راية “الخلافة”. ورغم جهود كثيرة بذلت في مراحل مختلفة لتوحيد التيارين القومي والإسلامي، أو التقريب بينهما على الأقل، إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل.
رابعًا: تعاظم التحديات الخارجية التي واجهها العالم العربي منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية. فإلى جانب التحدي الدائم الذي مثّله المشروع الصهيوني، والذي تواكب مع بداية نشأة الفكر العربي وتنامي الحركة القومية، تعرض العالم العربي، خاصة بعد هزيمة 1967، إلى سلسلة من النكبات، من أهمها: خروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل بعد توقيعها على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل عام 1979، واحتلال وغزو العراق من جانب الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، وفشل “ثورات الربيع العربي” وما أدى إليه ذلك من اشتعال صراعات وحروب أهلية في دول عربية عديدة، كسوريا وليبيا واليمن، بل ومن اندلاع حروب بين دول عربية، كالحرب الدائرة على الساحة اليمنية منذ عام 2015، وكلها تحديات تعكس هشاشة العالم العربي الذي أصبح أكثر عرضة لكل أنواع الاختراقات الخارجية.
كان من شأن تضافر هذه العوامل مجتمعة أن يبدو العالم العربي وكأنه عوالم كثيرة لا تربط بينها هوية جامعة وتتنازعه هويات وانتماءات متضاربة. فبينما يرى القوميون العرب أن الشعوب العربية تنتمي جميعها إلى أمة عربية واحدة ينبغي أن تسعى لإقامة دولتها الموحدة، ينكر الإسلاميون العرب وجود أمة عربية واحدة، ويرون أن الشعوب العربية هي جزء من أمة إسلامية أوسع ينبغي أن تتوحد تحت راية الخلافة، بينما يرى القطريون أو الوطنيون العرب أن وحدة الشعوب العربية، سواء تحت راية القومية العربية أو تحت راية الخلافة الإسلامية، هو مجرد حلم جميل أو أمنية تنتمي إلى عالم الأساطير، وأن واقع الشعوب العربية يفرض عليها أن يلتف كل منها حول “راية الوطن” لأن الدولة العربية بحدودها القائمة حاليًّا هي الحقيقة الوحيدة الراسخة والتي يمكن البناء عليها. غير أن ظاهرة عدم التماسك التي تعاني منها العديد من الدول العربية حاليًّا، واندلاع حروب أهلية في معظمها يدفع البعض إلى الاعتقاد بصعوبة بناء دول أو أمم قوية في هذه المنطقة من العالم، سواء كان ذلك على أسس دينية أو قومية أو وطنية، وأن الانتماء الأقوى والأكثر تماسكًا عند البعض هو الانتماء للطائفة أو للقبيلة أو ما شابهها من انتماءات “تحت قومية”.
وفي تقديري أن إظهار هذه الهويات المتنوعة وكأنها متصادمة بطبيعتها هو مسألة مصطنعة ومتعمدة يقصد بها إبقاء العالم العربي على حالته الراهنة من التشرذم والانقسام. فالصراع القائم بينها حاليًّا على أرض الواقع هو نتيجة لضعف العالم العربي وتفككه وليس سببًا فيه. فكل ناطق باللغة العربية يعيش على أي بقعة في هذا “الوطن العربي الكبير”، أيًّا كان المكان الذي ولد فيه، أو القبيلة التي نشأ فيها، أو الدين والمذهب الذي يعتنقهما، هو أولًا وقبل كل شيء عربي الثقافة واللسان، وبوسع من ولد في مصر مثلًا، ونشأ في عائلة كبيرة أو صغيرة، واعتنق الديانة الإسلامية أو المسيحية أو تبنى أيًّا من مذاهبهما المتعددة، أن يفخر بحضارته الفرعونية وأن يتمسك بدينه الإسلامي أو المسيحي أو بطقوس مذهبه أو طائفته، دون أن ينتقص ذلك من إحساسه بالانتماء إلى أمة عربية واحدة أو من الإيمان بحق هذه الأمة في إقامة دولتها الموحدة. الخلاف المشروع هنا يجب أن ينصرف إلى طبيعة وشكل هذه الوحدة وكيفية الوصول إليها. فالمجتمعات القوية لا يمكن أن تقام على أسس طائفية، أو مذهبية، أو دينية أو عرقية، وإنما على أسس قومية. لكن، أي نوع من الوحدة يلائم الواقع العربي، بكل تناقضاته القائمة على أرض الواقع؟ وما هو السبيل الأنسب للتوصل إليها؟ تلك إشكالية أخرى تستحق أن نفرد لها مقالًا آخر.