مقال لعبد الملك النمري، اليمن
الفائز بالمركز الثاني في تحدي الأصوات الخضراء للشباب والشابات في العالم العربي
الجميعُ اعتبر شغفَ “هند” بالزراعة أثناء نزوح عائلتها إلى القرية بأنه “مؤقت”؛ فهي كما زعموا، تفرِّغ “طاقتها السلبية وتحاول الهرب من ضغوط الحرب” ليس إلا، بل هي نفسها بدأت تتوقع بأن ذلك سينتهي يومًا، إلا أنه الشغف الذي تمسكت به وتخلّت لأجله عن كل شيء بما في ذلك التدريس في الجامعة!
في إحدى القرى الجبلية في صَبِر جنوب محافظة تعز اليمنية، بدأت “هند فؤاد” (32 عامًا) وعائلتها “حياة جديدة من الصفر”، بعدما قدموا من المدينة تاركين منزلهم وقد باتت المعارك على مقربة شديدة منه.
جاذبية قرى جبل صبر الشاهق لا تنبع من ملامح الفتيات المصبوغة بلون الشمس ورموشهن المذهَّبة فحسب؛ بل تعود أيضًا إلى إطلالتها الساحرة على المدينة المنبسطة في الأسفل، ومع ذلك، فإن أول ما جذب انتباه “هند” وأسرها في قريتها الجبلية، كان خضرة المكان والزراعة المنزلية الشائعة هناك.
“في البداية كان يلفتُ انتباهي الخضرة وتأسرني بجمالها، كنتُ أغبط أي شخص أمشي من عند بيته وعنده نباتات مزروعة”. تقول هند.
لو حبّه مشْقُر
مع دخول موسم الزراعة أبدى والد “هند” اهتمامًا بالغًا بحراثة أرضه التي ظلت مهجورة لسنوات، ونظرًا لغياب أبنائه الذكور “شجعني أني وخواتي للذهاب معه إلى الأحوال (الحقول) لمساعدته بالزراعة وإصلاح الأرض، ولكوننا غير متعودات ولأن الأرض مهجورة تعبنا جدًا، لكن حصادنا في النهاية أنسانا كل هذا التعب”.
إلى جانب ما زرعتْه هي “من نباتات ورد وزينة بسيطة حسب اللي توفر لي هذيك الفترة”، حصدت العائلة أصناف الخضروات، البقوليات، الحبوب وبعض الفاكهة، وهكذا “استمرينا نزرع بكل موسم أمطار وفي الشتاء للأسف نتوقف”.
لكن الشابة الثلاثينية ظلت، خارج موسم الزراعة حتى، تمارس شغفها المتنامي، “كان عندي مكان صغير جدًا مساحته مترين تقريبًا، كنت أطلب من الناس بالقرية بذور ونباتات عشان أزرعها فيه ولو حبّه مشْقُر، وأسقيها من خزان الخزان الأرضي”.
والحاجة إلى المياه مشكلة مستعصية في قرية هند كما في القرى الأخرى، “تعرفوا في القرى يهتموا بزراعة القات والنصيب الأكبر من الماء يذهب للقات فنظل ننتظر متى ما انتهى الجميع من سقي القات حتى نحصل على ما يخفف عطش نباتاتنا”.
بصمة خضراء
في مدينة تعز ولدت “هند فؤاد” ودرستْ حتى أنهت الجامعة بتفوق لتصبح معيدة في تخصص المختبرات الطبية، “حياتي كله كانت دراسة وعلم فقط ما في مجال لأي اهتمام آخر”، ولهذا بدا لعائلتها أن اهتمامها بالزراعة “جاء بسبب ضغط الحرب والوضع وأنا قاعدة أفرغ طاقة بس، كنت بدأت أصدق حتى وتوقعت يجي وقت وخلاص كل هذا ينتهي”.
ومع أن الحرب هي السبب الأول لانقطاع “هند” عن إلقاء المحاضرات في الجامعة، إلا أنها “متوقفة عن التدريس منذ أكثر من سنتين لعدة أسباب أحدها رغبتي بالتفرغ لمشروعي، وأن يكون لي بصمة خضراء في كل مكان بتعز”.
“ثقافة الزراعة مقتصرة على الكبار في السن، لكن أريدها أن تنتشر بين مختلف الفئات، مثلا لو شجعنا الزراعة المنزلية سنوفر ماديًّا ولها فائدة صحية، كذلك تعز وشوارعها تفتقر للأشجار الكثيرة التي يجب أن تتواجد كإضافة جمالية ولتنقية هوائها الملوث”.
وتعتبر التجربة هذه في سياق إسهامات المرأة اليمنية في “التكيف مع تغير المناخ، والتخفيف من حدته، والاستجابة له لبناء مستقبل أكثر استدامة للجميع”.
بتجْهَز بالطريق
كان فناء منزل العائلة مجرد مساحة صلبة وقاحلة، قبل أن تفكر “هند” في تحويلها إلى حديقة، “ذلك في السنة الثانية أو الثالثة لي بالقرية، في البدية اقتصرتُ على زراعة أزهار وورد ونباتات زينة، وأضفنا، أنا وعائلتي، إليها بعض أشجار الفواكه لاحقًا”.
ليست البذور وحدها ما كان ينمو ويزهر في حياتها؛ تعلقها بالأشجار هو الآخر ظل يكبُر يومًا بعد يوم، وحرصتْ، هي، أيضًا على أن توسع معرفتها بالنباتات -من أسمائها، تكاثرها والعناية الصحيّة بها- “من الإنترنت بشكل رئيسي ومن تعاملي مع مزارعين أو أصحاب مشاتل وكذا استشارة أشخاص مختصين”.
وتحتفظ “هند” بقاعدة «ابدأ وأنت مش جاهز؛ وبتجهز بالطريق» وقد اتبعتها بعد “نصيحة أسداها لي شخص عرضتله نباتاتي والزهور اللي عندي وباقة دوار الشمس، فأشار علي بأن أعمل لي مشروع ما دام عندي كذا أشياء حلوة وشجعني وكان أول شخص يشتري مني”.
من البدايات وإلى إنشاء جنة صغيرة في فناء المنزل كانت الأم الداعم الأول لـ”هند”، غير أنها استقبلت فكرة تحويل كل ذلك إلى “مشروع” بنوع من التردد، “كانت تقول مالك من هذا تعب، وقلتلها إنتي بس ادعميني وبيجي يوم ويكون للحديقة هذه شأن”.
عالم هند
كانت الخطوة التالية المتاحة “أنه أعمل لي حساب خاص بالمشروع على وسائل التواصل، وأطلقت صفحتي “green land عالم النباتات”، فكرتُ طويلًا بالاسم إلى أن اخترته واقتنعت به وأحسه يعبر عن عالمي الخاص اللي أحبه”.
في وسائل التواصل تنشر “هند” صورًا شبه يومية من حديقتها، ترفقها غالبًا بشرح عِلمي عن النباتات “يثقّف المتابعين ويسهل عليهم الاختيار”، وعبرها أيضًا “أتابع مع الزباين واستقبل استفساراتهم ومشاكلهم الخاصة بالنباتات ومعالجتها وأشجعهم باستمرار، هذه أهم مرحلة في عملي، بعدما أكون اجتزت المرحلة الأصعب وهي توصيل الطلبات حيث عليَّ التنقل بين المدينة وقريتي البعيدة”.
موقف العائلة والمجتمع حيال المشروع في تحسَّن متواصل، “بداية كان في مدح واطراء بس، ومع الوقت بدأت ألاقي استحسان أكثر مع رغبة في الحصول على نباتات وتشجيع للمشروع كونه مميز وفريد وصاحبته فتاة”.
حتى والدها الذي ما كانت تتوقع “أن يتقبل فكرة أن أنتقل من معيدة في الجامعة إلى مزارعة أو صاحبة مشروع زراعة أو بمفهوم الناس أبيع أشجار”، لم يبدِ أي معارضة، بل وازداد إيمانه بها بعد ووقوفها “المُلهم” على مسرح “تيدكس تعز“، ذلك ولديها أخت “كانت ولا زالت أكثر من يقف جانبي وتشجعني ومؤمنة بكل ما أعمل”.
ما من شك في أن “هند فؤاد” ستنجح مع الأيام في نشر ثقافة الزراعة، “وبنتوسع ويكون لنا بصمات خضراء منتشرة في كل مكان، وبتصبح النباتات من أساسيات كل بيت وكل مقر عمل”، ومؤخرًا صمّمت بالفعل حدائق داخلية لكافيهات ومنظمات عدة في مدينة تعز.