يصادف يوم 15 كانون الثاني/يناير من كل عام ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر. ورغم مرور أكثر من قرن على مولده، وأكثر من نصف قرن على رحيله، ما يزال عبد الناصر حاضرًا بقوة على الساحتين السياسية والفكرية، ليس في مصر وحدها ولكن على الصعيدين العربي والعالمي أيضًا. ويكفي أن نتذكر أنه الرمز السياسي الوحيد الذي قام شباب ثورة يناير 2011 برفع صورته في ميدان التحرير، على الرغم من أنهم لم يروا عبد الناصر في حياتهم، ما شكل مفارقة تستدعي التأمل والنظر، خاصة وأن الهدف الحقيقي لثورة يناير لم يكن إسقاط حكم مبارك وحده وإنما أيضًا إسقاط “حكم العسكر” الذي لعب عبد الناصر دورًا رَئِيسِيًّا في تأسيسه. وإن دلت هذه المفارقة على شيء فإنما تدل على أن الإسهام الفكري والسياسي لعبد الناصر ما يزال مثار جدل حاد بين فريقين: أحدهما يرى أنه مجرد ضابط تمكن من قيادة انقلاب عسكري ضد نظام حكم “شبه ديمقراطي” ليؤسس على أنقاضه نظام حكم مستبد، ما زال يجثم على صدر مصر ويعد المسؤول الفعلي عن تدهور مكانتها. أما الفريق الآخر فيراه، على العكس، مفجّر واحدة من أهم الثورات التي غيرت وجه مصر والمنطقة.
لا يهدف هذا المقال إلى تقصي أسباب هذا النوع من الجدل العقيم، ولا إلى تحليل دوافعه ومراميه، وإنما التعرف أولًا وقبل كل شيء على حقيقة موقف عبد الناصر من واحدة من أهم قضايا هذا الجدل، ألا وهي قضية هوية مصر. فالكارهون لعبد الناصر يعتقدون أن مصر كانت وما تزال “فرعونية” الهوية ولا علاقة تربطها بالعرب الذين احتلوها مثلما احتلها من قبلهم غزاة كثر، وينطلقون من هذه المقولة لاتهام عبد الناصر بتبديد موارد مصر المحدودة في قضايا لا ناقة لمصر فيها ولا جمل، كقضية فلسطين التي خاضت مصر من أجلها حروبًا مكلفة، وللدفاع عن ثورات وطنية واجتماعية عربية، كالثورة الجزائرية التي وضعت مصر كل إمكاناتها خلفها، أو الثورة اليمنية التي خاضت مصر من أجل تثبيت دعائمها حربًا استمرت لسنوات واستنزفت الكثير من مواردها ومن دماء أبنائها. ولأن معظم النظم العربية أصبحت في هذه الأيام أكثر ميلًا للانكفاء على قضاياها الداخلية وتروج بعض نخبها لمقولات من نوع “فينيقية” بلاد الشام و”أمازيغية” بلاد المغرب..إلخ، فربما يكون من المفيد هنا، ونحن نتذكر عبد الناصر في يوم مولده، أن نناقش رؤيته لهوية مصر والمدخل بأن مصر ليس فقط عربية الهوية وإنما هي مؤهلة أيضًا لقيادة العالم العربي كله نحو الوحدة والتقدم.
للعروبة، من الناحية العلمية، ثلاثة مداخل رئيسية:
المدخل الأول: “إثني”، يبحث في الأصول العرقية أو الجنسية للشعوب. ومن المسلم به أن شعوب ما يطلق عليه الآن “العالم العربي” تنتمي إلى أصول عرقية متباينة. ومع ذلك، يرى عالم الجغرافيا الموسوعي جمال حمدان، مؤلف “شخصية مصر”، “أن الفرشة الجنسية الأساسية التي كانت تغطي نطاق الصحاري في العالم القديم من المحيط إلى الخليج، كانت تنتمي إلى أصل واحد متوسطي، وفي العصر المطير حين كانت الصحراء سفانا كانت كثافة السكان مخلخلة جدًا. وفي هذا الإطار كانت الحركة والهجرة والترحل ظاهرة دائمة، ومن ثم كان الاختلاط الجنسي أساسيًّا ولا محل لعزلة أو نقاوة، وكل الذي حدث بعد ذلك مع عصر الجفاف أن تجمعت كل مجموعة من هؤلاء السكان في رقعة محدودة، ومعنى هذا أنه حدث تقطع في الغطاء القديم المتجانس جنسيًّا إلى عدة رقع متباعدة جغرافيًّا ولكنها تظل متجانسة جنسيًّا، وهذا بالدقة مفتاح أنثروبولوجية عالمنا العربي، فشعوب المنطقة جميعًا قبل العرب والإسلام هم أساسًا وأصلًا أقارب انفصلوا جغرافيًّا ابتداء من العراق إلى الشام إلى الجزيرة العربية ومن مصر إلى المغرب، أما التوطن المحلي والمؤثرات الدخيلة الموضعية والتزاوج الداخلي الذي حدث بعد ذلك فلا يمكن أن ينتج أكثر من ابتعادات محلية ضئيلة لا تغير من وحدة الأصل الدموي وتجانس العرق في كثير، ويظل العالم العربي أو بيت العرب الجغرافي الكبير، هو دوار العرب بمعنى الأسرة الموسعة التي تضم عدة أسر نووية”. معنى هذا أن جمال حمدان يرى أن شعوب “العالم العربي” تنتمي إلى “جذر” إثني واحد صنعته موجات الهجرة والترحال في العصور القديمة، حتى من قبل الفتوحات الإسلامية، أما في العصر الحديث فيندر أن نجد شعبُا يتمتع بنقاء عنصري كامل. غير أننا نعتقد أن وحدة الأصل العرقي لم تكن هي المدخل الذي أقنع عبد الناصر بعروبة مصر.
المدخل الثاني: “ثقافي-تاريخي”، يبحث في عوامل التفاعل المتبادل بين شعوب هذه المنطقة، ويرى أن الفتوحات الإسلامية التي انطلقت من الجزيرة العربية منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنًا ونصف لعبت دورًا توحيديًّا في منطقتنا بالذات أعمق بكثير من الدور الذي لعبته في مناطق العالم الأخرى التي طالتها هذه الفتوحات. فشعوب “العالم العربي” هي وحدها التي لم تكتف بتبني الإسلام دينًا، وإنما تبنت في الوقت نفسه لغة القرآن ثقافة وأداة اتصال فيما بينها، ما أدى إلى اندثار لغاتها وثقافاتها القديمة، وبالتالي أصبحت الثقافة العربية المستمدة من الحضارة الإسلامية أهم أدوات الصهر فيما بينها. ولأن اللغة العربية أصبحت لسان جميع سكان مصر، مسلمين كانوا أم أقباطًا، فقد كان من الطبيعي أن تصبح هي أداة الصهر الرئيسية ليس فقط بين المواطنين المصريين، وإنما أيضًا بين الشعب المصري ككل وبقية الشعوب العربية. لذا لم يكن غريبًا أن يستقر مفهوم العروبة في الوجدان الشعبي باعتباره مفهومًا ثقافيًّا-تاريخيًّا في المقام الأول.
المدخل الثالث: “سياسي-إستراتيجي-أمني”، يبحث في العوامل التي تساعد على تمكين الشعوب العربية من التخلص من كافة مظاهر التخلف والتبعية. وفي هذا السياق تتجلى الوحدة العربية كأداة أو مشروع سياسي قادر على تحقيق تلك الأهداف النبيلة. ولا جدال في أن عبد الناصر كان واحدًا من هؤلاء الذين اقتنعوا بأهمية الوحدة العربية كأداة لتحقيق التقدم والازدهار لكل الشعوب العربية، أي أن العروبة بالنسبة له لم تكن نظرية فكرية أو أيديولوجية جامدة، وإنما ضرورة سياسية وإستراتيجية وأمنية، اكتشفها ليس فقط من خلال دراسته للجغرافيا السياسية في الكلية الحربية وإنما أيضًا من خلال نضاله الفعلي لتحقيق هذه الأهداف على الصعيد الوطني. إذ يلاحظ أن الأهداف الستة التي طرحتها ثورة يوليو عند انطلاقها خلت من أي إشارة إلى الوحدة العربية، وتمحورت كلها حول أهداف تخص مصر وحدها. فقد تصور عبد الناصر في البداية أن بمقدور مصر تحقيق أمن ورفاهية الشعب المصري إذا استطاعت القضاء على الاستعمار والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، وتمكنت من إقامة جيش وطني قوي ونظام يحقق العدالة الاجتماعية والديمقراطية السليمة. صحيح أنه كان يرى منذ البداية أن مصر لن تتمكن من تحقيق تلك الأهداف إلا إذا استطاعت أن تلعب دورًا فاعلًا في مجالها الحيوي الذي تصنعه ثلاث دوائر، عربية وإفريقية وإسلامية، لكنه لم يكتشف القوة الكامنة في الدائرة العربية إلا من خلال المعارك التي خاضها على الصعيدين الإقليمي والدولي. فما أن شرع في تنفيذ مشروعه الوطني حتى اصطدم بالقوى الغربية التي أرادت جرّ مصر للانخراط في أحلاف عسكرية تستهدف تطويق الاتحاد السوفيتي. وعندما رفض الانضمام إلى حلف بغداد، وتمكن من كسر احتكار السلاح، وأقدم على تأميم قناة السويس، ردًا على سحب الولايات المتحدة عرضًا سابقًا بالمساهمة في تمويل السد العالي، تآمرت عليه إسرائيل وتحالفت مع فرنسا وبريطانيا لإسقاطه بضربة عسكرية، وهنا اكتشف عبد الناصر أن الشعوب العربية هي سنده الرئيسي وخط دفاعه الأول ضد المشروع الصهيوني المرتبط عضويًّا بقوى الهيمنة العالمية، ومن ثم بدأ يدرك الأهمية الإستراتيجية الكبرى لفكرة الوحدة العربية التي ظل يدافع عنها حتى آخر رمق في حياته، وأن مصر لن تستطيع تحقيق استقلالها الحقيقي ورفاهية شعبها إذا تمكنت القوى الاستعمارية من تهميش دورها وعزلتها عن أمتها العربية، وهذا هو بالتحديد ما عجز الرئيس السادات عن إدراكه، أو لم يؤمن به أصلًا، رغم انتمائه إلى حركة “الضباط الأحرار” التي قادت ثورة يوليو.
لقد رحل عبد الناصر منذ أكثر من نصف قرن، قاد مصر بعد رحيله ضباط أفرزهم نظام عبد الناصر السياسي، لكنهم تخلوا جميعا عن مشروعه الوطني، والذي تمحور حول الربط العضوي بين قدرة مصر على تحقيق الأمن والاستقرار لشعبها وقدرتها على قيادة أمتها العربية على نفس الدرب، وتبنوا مشروعًا نقيضًا يروج لمقولة “مصر أولًا” ويعمل على فك الارتباط بين مصر والعروبة والقضية الفلسطينية، والدوران في فلك السياسات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. غير أن هذا المشروع النقيض لم يثمر شيئًا سوى تفكيك أوصال العالم العربي وإضعاف مصر في الوقت نفسه. لذا تبدو مصر اليوم في أمس الحاجة إلى مشروع وطني بديل تعيد من خلاله ربط مصيرها بمصير الأمة العربية، ليس بالضرورة من خلال نفس الأسلوب الذي انتهجه عبد الناصر في التعامل مع قضية الوحدة العربية أو من خلال نظام سياسي شبيه بنظام عبد الناصر، ولكن من خلال أسلوب جديد يأخذ في اعتباره تعقيدات الواقع العربي، ومن خلال نظام سياسي مختلف يؤمن بالديمقراطية، وحقوق الإنسان ودولة القانون.