انطلقت العملية التكاملية في كل من أوروبا والعالم العربي في ظل النظام الدولي ثنائي القطبية الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن تأثير هذا النظام على التجربة التكاملية في الحالتين كان متباينًا إلى حد التناقض، حيث لعب دورًا مواتيًا لتطور وازدهار التجربة التكاملية في أوروبا، ومعرقلًا لتطور وازدهار التجربة التكاملية في العالم العربي.
أولًا: بالنسبة لأوروبا
جرت محاولات كثيرة لتوحيد أوروبا في مراحل مختلفة من تطور النظام الدولي، لكنها لم تنجح إلا بعد أن أصبح النظام الدولي ثنائي القطبية وبقيادة غير أوروبية. فقبل الحرب العالمية الثانية، خضع النظام الدولي لهيمنة قوى أوروبية كبرى تتنافس وتتصارع فيما بينها للهيمنة على القارة الأوروبية. ولأن هذه الصراعات، خاصة بين فرنسا وألمانيا، ظلت محتدمة بشدة لفترة طويلة وتسببت في اندلاع حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد كان من الطبيعي أن تبوء كل المحاولات التي بذلت لتحقيق الوحدة بين الدول الأوروبية قبل الحرب العالمية الثانية، وهي كثيرة، بالفشل التام. غير أن وضع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية اختلف تمامًا عما كان عليه قبلها، خاصة بعد أن وجدت كافة الدول الأوروبية نفسها منهكة تماما وفي حالة يرثى لها بعد الدمار الذي أصابها خلال حربين عالميتين متتالييتين. فقد تراجع دور القارة الأوروبية ككل، وتقدمت لقيام النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية قوتان من خارج أوروبا، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ما أدى إلى تراجع حدة الخلافات والتناقضات بين الدول الأوروبية، ودفعها للبحث عن وسائل وطرق جديدة لحل خلافاتها حتى لا تتسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة قد لا تقوم لها قائمة بعدها. ولأن الاتحاد السوفييتي خرج من الحرب العالمية الثانية ليس فقط منتصرًا، وإنما محاطًا في الوقت نفسه بسياج من دول أوروبا الشرقية التي ساهم بنفسه في تحريرها من الاحتلال النازي وأقام فيها أنظمة حكم خاضعة لنفوذه وسيطرته، فقد أصبح يشكل في إدراك معظم دول أوروبا الغربية مصدر تهديد فعلي أو محتمل، ومن ثم فلم يكن أمامها من خيار آخر لتحقيق أمنها سوى التحالف مع الولايات المتحدة. وفي سياق كهذا، كان من الطبيعي أن يتحول النظام الدولي من نظام متعدد القطبية تتنافس الدول الأوروبية الكبرى على قيادته، إلى نظام ثنائي القطبية يتسم باحتدام الصراع بين معسكرين كبيرين، أحدهما شرقي يقوده الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية جزء منه، والآخر غربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية جزء منه. ولأن الولايات المتحدة بدت ليس فقط مؤهلة لقيادة المعسكر الغربي وإنما مستعدة أيضًا لتحمل أعباء وتكاليف هذه القيادة، فقد تهيأت أمام أوروبا الغربية عوامل إضافية تدفعها للتفكير في إطلاق عملية تكاملية أو وحدوية جادة فيما بينها. فالاتحاد السوفيتي من أمامها يشكل مصدر تهديد كبير يدفعها للتوحد في مواجهته، والولايات المتحدة من خلفها تبدو جاهزة ليس فقط لتقديم الحماية والعون، وإنما أيضًا لحثها وتشجيعها على التوحد فيما بينها، اعتقادًا منها أن أي خطوة من هذا النوع ستساعد بالضرورة على تقوية المعسكر الغربي في مواجهة المعسكر الشرقي.
في إطار إستراتيجيتها الرامية لقيادة المعسكر الغربي ورص صفوفه، قامت الولايات المتحدة باتخاذ مبادرتين ساعدتا على تهيئة الأجواء أمام انطلاق أول تجربة تكاملية في أوروبا الغربية. الأولى: مشروع مارشال، والذي قدمت الولايات المتحدة من خلاله مساعدات مالية وفنية هائلة لدول أوروبا الغربية، بلغت قيمتها خلال الفترة من 1948 وحتى 1952 وحدها أكثر من 128 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك الوقت. والثانية: حلف شمال الأطلنطي الذي وفر لهذه الدول مجتمعة مظلة أمنية ما كان لأي عملية تكاملية في أوروبا الغربية أن تنجح في غيابها. لذا يمكن القول دون أي تردد إن عملية التكامل والوحدة في أوروبا الغربية، والتي أطلقتها عام 1951 معاهدة باريس المؤسسة للجماعة الأوروبية للفحم والصلب، حلقت على جناحين أمريكيين هما: مشروع مارشال، الذي وفر الموارد الاقتصادية اللازمة لمواجهة التهديدات الداخلية الناجمة عن تنامي المد الشيوعي في ذلك الوقت، من ناحية، وحلف شمال الأطلنطي الذي وفر لأوروبا مظلة أمنية تمكنها من مواجهة أي تهديدات خارجية قد يقد م عليها الاتحاد السوفييتي أو دول أوروبا الشرقية، من ناحية أخرى. ودون هذين الجناحين، ما كان يمكن للتجربة التكاملية في أوروبا الغربية أن تنطلق أصلًا، ناهيك عن أن تحلق وتصبح في وضع يمكنها من تحقيق إنجازات متتالية. صحيح أن حاجة الولايات المتحدة إلى دعم ومساندة هذه العملية راحت تضعف وتتضاءل بمرور الوقت، مفسحة المجال لظهور تناقضات متزايدة بين المصالح الأمريكية والمصالح الأوروبية، إلا أن هذه التناقضات ظلت ثانوية طوال فترة الحرب الباردة، مقارنة بالتناقضات الأساسية القائمة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كانت التجربة التكاملية في أوروبا الغربية قد نضجت وأينعت وأصبحت جاهزة لاستيعاب دول أوروبا الشرقية نفسها، خاصة بعد تأسيس “الاتحاد الأوروبي” الذي راح يتصرف في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وكأنه أحد اللاعبين الكبار على الساحة الدولية.
ثانيًا: بالنسبة للعالم العربي
لم تتوفر للعالم العربي في أي مرحلة من مراحل تطور النظام الدولي المعاصر بيئة دولية حاضنة لقضية الوحدة أو ملائمة لإطلاق تجربة تكاملية أو وحدوية ناجحة. صحيح أن وجود تحديات خارجية كبيرة لعب في بعض الأحيان دورًا مساعدًا للإبقاء على الفكرة القومية حية في الضمير العربي، غير أن الخلل في موازين القوى العالمية، وفي طبيعة التحالفات الدولية الناجمة عنها، لعبا دورًا مهمًّا في إجهاض كل المحاولات والتجارب الوحدوية العربية، خاصة وأن الحركة القومية العربية كانت وما تزال في جوهرها حركة تحرر وطني ضد محتل أجنبي وعدو خارجي. فمن المعروف أن هذه الحركة ظهرت في البداية لمناهضة الهيمنة العثمانية واستهدفت تخليص العالم العربي من الاستبداد التركي، خاصة بعد أن تغيرت النظرة إلى تركيا من رمز للخلافة الإسلامية إلى قوة احتلال. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وجهت الحركة القومية العربية سهامها ضد الاستعمار الغربي بأشكاله التقليدية، ثم ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني للأراضي الفلسطينية. صحيح أن الحركة القومية العربية لقيت في بداية انطلاقها دعمًا وتشجيعًا ومساندة من بريطانيا، لكن ذلك تم لأسباب تكتيكية. فبينما سعت الحركة القومية العربية للتخلص من السيطرة العثمانية، كمقدمة للتخلص من كل أشكال السيطرة الأجنبية على المنطقة، سعت بريطانيا للتحالف مع الحركة القومية العربية الوليدة ضد الإمبراطورية العثمانية التي كان لها مصلحة في تقويضها أملًا في إرث تركتها. وصحيح أيضًا أن بريطانيا عادت لمغازلتها مرة أخرى إبان الحرب العالمية الثانية، غير أن مصر وجدت في هذه المغازلة فرصة لرص الصفوف العربية، ومن ثم قامت بإجراء مشاورات ثنائية مع ست دول عربية أخرى أسفرت عن إنشاء جامعة الدول العربية. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الموقف البريطاني المتعاطف مع فكرة الوحدة العربية نظريًّا كان موقفًا مؤقتًا مدفوعًا بالخوف من انحياز الدول العربية لألمانيا في الحرب، ولم يعكس توجهًا بريطانيًّا جديدًا وجديًّا لدعم الحركة القومية العربية.
عندما آلت قيادة الحركة القومية العربية إلى مصر الناصرية، خاصة بعد معركة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وراح التقارب بين مصر والاتحاد السوفيتي يتنامى، لاحت فرصة جديدة أمام التيار القومي العربي للحصول على دعم قوي من أحد قطبي النظام الدولي، غير أن الخلافات الأيديولوجية الحادة بين الأطروحات الماركسية التي كان يتبناها الاتحاد السوفييتي، والأطروحات القومية التي كان يتبناها عبد الناصر، وضعت حدًّا أو سقفًا لهذا الدعم كان من الصعب تجاوزه. وفيما عدا هذه الفرص المحدودة التي أتاحها النظام الدولي وسمحت للحركة القومية العربية بهامش ما من حرية الحركة والمناورة، لم تصب معظم التحولات التي طرأت على هذا النظام في صالح أي عملية تكاملية أو وحدوية حقيقية في العالم العربي في أي مرحلة. ففي ظل النظام الدولي ثنائي القطبية، راحت الحرب الباردة تمارس تأثيرها على النظام الإقليمي العربي وأسهمت بالفعل في إشعال حرب باردة عربية موازية تسببت في عرقلة العمل العربي المشترك. ورغم تمكن التيار القومي بزعامة عبد الناصر من إقامة علاقة قوية مع الاتحاد السوفييتي، إلا أنه لم يكن بمقدور هذه العلاقة أن توازن أو تصل إلى مستوى علاقة الولايات المتحدة والمعسكر الغربي بإسرائيل. فمن المسلم به أن التحالف الغربي-الإسرائيلي سعى بكل قوة لإجهاض أي خطوة تكاملية أو وحدوية عربية ورأى فيها تهديدًا لأمن إسرائيل، غير أن هذه الحقائق لا ينبغي أبدًا أن تقلل من حجم الأخطاء التي ارتكبتها الأنظمة العربية التي تدعي الانتماء للتيار القومي أو العروبي. فهذه الأنظمة تتحمل المسؤولية الأكبر في الفشل الذي أصاب العملية التكاملية والوحدة العربية.
أخلص مما تقدم إلى أن التطورات التي طرأت على النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن لعبت دورًا مواتيًا لإطلاق وازدهار عملية التكامل والوحدة في أوروبا، بينما لعبت دورًا معرقلًا لحركة التكامل والوحدة في العالم العربي. وليس معنى ذلك أن النظام الدولي هو المسؤول عن فشل تجربة التكامل والوحدة في العالم العربي ونجاحها في أوروبا الغربية لأن المسؤولية الرئيسية عن الفشل هنا والنجاح هناك تعود لأسباب داخلية في المقام الأول، وليس لأسباب خارجية، كما سنوضح لاحقًا.