عاشت أوروبا قرونًا طويلة ترسف في أغلال التخلف والعبودية. وبينما كانت القارة العجوز تعيش واحدة من أحلك مراحلها التاريخية، كانت الجزيرة العربية تتهيّأ لظهور الإسلام الذي فجر طاقاتها ومنها انطلق إلى معظم أرجاء العالم، حاملًا معه مشعل حضارة تصدرت حضارات العالم لقرون طويلة، ولعبت دورًا أساسيًّا في نقل كنوز الحضارة اليونانية القديمة إلى العالم المعاصر. وحين دارت دورة الزمن، وانقلبت الأوضاع رأسًا على عقب، أصبحت أوروبا المتخلفة، خصوصًا عقب الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية، هي الحامل الجديد لمشعل الحضارة والتنوير في العالم أجمع. بينما راحت المناطق الأخرى، ومنها المنطقة التي تعرف الآن باسم “العالم العربي”، تتراجع حضاريًّا وترسف من جديد في أغلال التخلف والاستعباد. ولأن “العالم العربي” لم يدرك حقيقة تخلفه عن ركب الحضارة الحديثة إلا بعد احتكاكه بالحملة الفرنسية على مصر والشام نهاية القرن الثامن عشر، فقد بدأ منذ ذلك الحين يطرح على نفسه سؤالًا جوهريًّا ما زال يبحث عن إجابة: لماذا تقدموا “هم” بعد تخلف، بينما تخلفنا “نحن” بعد تقدم؟ ثم راح يتفرع عن السؤال المحوري أسئلة أخرى كثيرة، تدور في معظمها حول المقارنة بين ما أحرزته أوروبا من نجاح في مختلف المجالات والميادين وما لحق بالعالم العربي من إخفاق في المقابل. من بين هذه الأسئلة الفرعية، سؤال يتعلق بالأسباب التي مكنت الدول الأوروبية من تحقيق درجة كبيرة من التكامل والوحدة فيما بينها، رغم ضعف الروابط بين شعوبها. بينما أخفقت الدول العربية في تحقيق قدر ولو ضئيل من الوحدة فيما بينها، رغم أن الروابط التاريخية والثقافية بين شعوبها تبدو أقوى بكثير مما هي عليه في الدول الأوروبية.
من المعروف أن محاولات تحقيق التكامل والوحدة في العالم العربي أسبق في نشأتها من نظيرتها في أوروبا. فقد بدأت هذه المحاولات في العالم العربي قبل نهاية النصف الأول من القرن الماضي وأسفرت عن قيام جامعة الدول العربية عام 1945. ولأن قيام هذه الجامعة لم يلبّ طموحات التيار القومي العربي الذي كان يتطلع لوحدة سياسية كاملة بين مختلف الأقطار والشعوب العربية، فقد جرت محاولات لاحقة لإقامة تجارب وحدوية جزئية بين دولتين عربيتين أو أكثر. لكن أغلب هذه التجارب فشل في الواقع ولم يفلت من هذا الفشل إلا القليل جدًّا. صحيح أن جامعة الدول العربية تمكنت من الصمود والاستمرار، كإطار مؤسسي جامع لكل الدول العربية ومعبر عن وجود نظام إقليمي عربي له خصوصيته، لكنها راحت تضعف تدريجيًّا بمرور الوقت، بعكس التجربة الأوروبية التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي بمحاولة للتكامل الجزئي في قطاع محدد هو قطاع الفحم والصلب، ولم يشارك فيها إلا عدد محدود من الدول الأوروبية، لا يتجاوز ست دول. لكن هذه المحاولة نجحت في تثبيت أقدامها على الفور، ثم راحت تتطور باطراد وتتسع أفقيًّا ورأسيًّا إلى أن وصلت إلى ما هي عليه حاليًّا. إذ يوجد الآن “اتحاد أوروبي” يضم 27 دولة تمكنت بالفعل من تحقيق معظم مظاهر وحدتها الاقتصادية، وبدأت تدخل تدريجيًّا في مرحلة بناء الوحدة السياسية، بدليل وجود مفوض أعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي حاليًّا.
لقد جرت محاولات متكررة من جانب الباحثين العرب لدراسة أسباب الإخفاق هنا والنجاح هناك، وتوصلت دراساتهم المتنوعة إلى نتائج محددة لتفسير هذه المفارقة، صبّت جميعها في مجرى واحد، ألا وهو توافر الإرادة السياسية لدى قادة الدول الأوروبية وغيابها لدى قادة الدول العربية. غير أن هذا الاستنتاج لا يقدم، في تقديري على الأقل، تفسيرًا علميًّا مقنعًا لهذه الظاهرة المركبة، المتمثلة في نجاح تجربة التكامل والوحدة في أوروبا، من ناحية، وفشل تجربة التكامل والوحدة في العالم العربي، من ناحية أخرى، رغم امتلاك العالم العربي لمقومات تكاملية ووحدوية أكبر بكثير مما تملكه الدول الأوروبية. فالوقائع التاريخية تؤكد لنا أن إرادة التضامن والوحدة تجلت لدى القادة العرب في أوقات كثيرة، خصوصًا في أزمات وحروب 1948 و1956 و1973 على سبيل المثال وليس الحصر، غير أنها كانت في معظم الأحيان إرادة ظرفية أو مرحلية، بمعنى أنها كانت غالبًا ما تتجلى وتتمكن من تحقيق إنجازات كبرى في أوقات أو مراحل معينة، ثم لا تلبث أن تنحسر ثم تتراجع ثم تختفي، في عملية تتسم بالميل للدوران حول نفسها إلى أن تصل إلى نقطة الصفر قبل أن تعاود الظهور ثم الانطلاق من جديد. لذا، تبدو تجربة التكامل والوحدة العربية، الأقرب إلى الفشل، في حاجة ماسة إلى إعادة فحص وتقييم من جديد، ولكن عبر مرآة تجربة التكامل والوحدة الأوروبية، الأقرب للنجاح، وذلك للتعرف على أسباب الفشل هنا والنجاح هناك. وهو ما سنحاول القيام به في هذه السلسلة من المقالات.
نقترح أن نقسم هذه السلسلة من المقالات إلى مجموعة من المحاور. ففي محور أول سنحاول رصد أوجه الشبه والاختلاف بين التجربتين، سواء في سياق تطورهما التاريخي، أو في سياق مدى تأثرهما بالنظامين الدولي والإقليمي اللذين أحاطا بهما عند النشأة وعبر مسيرة التطور، أو في سياق المنهج المستخدم في إطلاق وإدارة كل منهما. وفي محور ثانٍ، سنحاول دراسة الأسباب التي مكنت التجربة الأوروبية من حل عدد من المعضلات التي واجهتها: كمعضلة الأمن، ومعضلة بناء المؤسسات والهياكل التنظيمية، ومعضلة تحييد الخلافات السياسية، ومعضلة تحقيق التوازن بين الأعباء والفوائد، وكذلك الأسباب التي أدت إلى عجز التجربة العربية عن إيجاد حلول مماثلة للمعضلات المشابهة. وفي الختام، سنحاول استخلاص الدروس المستفادة ومناقشة مدى قابلية التجربة الأوروبية للنقل والتطبيق في الواقع العربي.
فمن المعروف أن تجارب التكامل والوحدة بين الدول، ومنها تجربة التكامل والوحدة بين الدول العربية، تواجه معضلات متشابهة، في مقدمتها اختلاف أحجام وأوزان الدول الراغبة في الدخول في عملية تكاملية أو وحدوية. ففي جميع هذه التجارب، عادة ما تكون الدول الراغبة في خوضها دولًا غير متساوية أو متكافئة القوة. فمنها دول كبيرة وأخرى صغيرة، ودول قوية وأخرى ضعيفة، ودول غنية وأخرى فقيرة، ودول كثيفة السكان وأخرى خفيفة. ولأنه يفترض، كقاعدة عامة، بناء العلاقات فيما بينها على قاعدة المساواة السيادية، أي على قاعدة عدم التمييز بين الدول كبيرها أو صغيرها، قويها أو ضعيفها، غنيها أو فقيرها.. إلخ، فمن الطبيعي أن تشكل هذه القاعدة عقبة أمام ضرورة بناء مؤسسات قوية قادر على جرّ عربات التكامل الثقيلة. فنجاح أي عملية تكاملية أو وحدوية يتطلب دائمًا قيام مؤسسات تتمتع بسلطات قوية تعلو على سيادة الدول في مجالات معينة، كما قد يتطلب أحيانًا قيام أجهزة ومؤسسات يقتصر التمثيل فيها على عدد محدود من الدول، وليس جميع الدول الأعضاء، أو قيام أجهزة ومؤسسات أخرى تتمتع فيها الدول الأعضاء بأوزان تصويتية أو بعدد من المقاعد يختلف من دولة إلى أخرى. ولأن علم “التنظيم الدولي” يقدم لنا حلولًا فنية مختلفة ومبتكرة لمعظم هذه المعضلات، فمن الطبيعي أن تقاس فاعلية التجارب التكاملية أو الوحدوية استنادًا إلى طبيعة الحلول الفنية التي يمكن للدول الأعضاء أن تقبل بها في كل حالة على حدة.
على صعيد آخر، فإن التباين بين الدول المشاركة في تجارب تكاملية أو وحدوية لا يقتصر على حجم وأوزان هذه الدول وإنما يمتد ليشمل شكل وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها وكذلك شكل وطبيعة البنى السياسية، والاجتماعية والاقتصادية السائدة في هذه الدول. ففي العالم العربي، دول تحكمها أنظمة ملكية وأخرى تحكمها أنظمة جمهورية، ودول تحكمها توازنات طائفية، أو عرقية، أو قبلية معينة، وأخرى يلعب فيها الجيش أو الأسر الحاكمة أدورًا سياسية مؤثرة. وهناك اقتصاديات يغلب عليها الطابع الريعي أو الخدمي، وأخرى تتسم بوجود قطاعات إنتاجية، زراعية أو صناعية، متقدمة نسبيًّا إلى أخرى. ولا شك في أن نجاح أو فشل أي تجربة تكاملية أو وحدوية يتوقف على نوعية الحلول التي تم التوافق عليها للتغلب على المعضلات أو تجاوز الاختلافات القائمة. وسنحاول في هذه السلسلة من المقالات استعراض الحلول التي اعتمدتها كلا التجربتين الأوروبية والعربية للتغلب على كافة هذه المعضلات، وبما يسمح لنا ليس فقط باستخلاص الأسباب الحقيقية التي أدت إلى نجاح الأولى وإخفاق الثانية، وإنما أيضًا مناقشة ما إذا كانت التجربة الأوروبية في التكامل والوحدة قابلة للنقل في الواقع العربي، أم أن دراستها واجبة فقط لاستخلاص الدروس التي يمكن أن تسهم في تحسين أداء التجربة العربية، وضمان فاعليتها وعدم انتكاستها في المستقبل.