على مدى العقدين الماضيين، تعالت على الصعيدين المحلي والعالمي الأصوات الداعية إلى الحاجة إلى تغيير ديناميكيات القوة في هياكل التنمية والمساعدات الإنسانية الحالية من خلال اعتماد محلية العمل الإنساني كجزء من جميع مساعي المساعدات الإنسانية. تقتضي محلية العمل الإنساني تقاسم السلطة والموارد والمسؤوليات في جهود التنمية والمساعدات الإنسانية مع الجهات الفاعلة المحلية والوطنية. حيث وضعت الصفقة الكبرى، وهي الوثيقة الختامية للقمة العالمية للعمل الإنساني التي انعقدت في عام 2016، جدول أعمال لإصلاح قطاع الإغاثة الدولي لجعله أكثر كفاءة من حيث التكلفة وأكثر شمولاً مع توزيع أكثر توازناً للسلطة؛ إذ تعهدت الحكومات المانحة الموقعة على الصفقة الكبرى بدعم محلية العمل الإنسانية من خلال زيادة التمويل المحلي وتعزيز القدرات المحلية والتنسيق المحلي وتقوية الشراكات المحلية.
الخطوة الأساسية في إنشاء مجتمع مدني فعّال يمكنه قيادة التنمية المستدامة والتدخلات الإنسانية تبدأ بتمكين الجهات الفاعلة المحلية ودعمها. فلا بد للمنظمات المحلية والدولية العمل ضمن شراكات بدلاً من اتباع الأساليب التقليدية “المتدرجة” من الأعلى إلى الأسفل التي تُستخدم في الوقت الحالي ولا تخدم فكرة محلية العمل الإنساني بشكل حقيقي. يكمن أحد الأسباب الرئيسية لأهمية محلية العمل الإنساني في حتمية وجود مجتمع مدني محلي متمكّن وقادر على تعزيز التماسك الاجتماعي والتغيير المستدام والتنمية سريعة الاستجابة. إلا أنه وعلى الرغم من الالتزامات الدولية تجاه دعم محلية العمل الإنساني، فإن المنظمات غير الحكومية في الأردن لا تزال تتلقى جزءاً ضئيلاً من التمويل الذي تحصل عليه المنظمات الدولية. وعليه، لا بد للمنظمات غير الحكومية الوطنية مطالبة المانحين الدوليين لتضمين محلية العمل الإنساني في متطلبات المساعدات الخارجية.
ومن المهم أيضاً أن تكون المؤسسات الفكرية والمنظمات غير الحكومية والمنظمات المشاركة في النقاش قادرة على تزويد الجهات المعنية بتقييم واقعي لقدرات المنظمات المحلية ومستويات الخبرة الفنية التي تمتلكها، وما تحتاجه تلك المنظمات لتطوير قدراتها على قدم المساواة مع نظيراتها الدولية. من الواضح أن تنمية القدرات تستلزم نقل المعرفة من المستوى الدولي إلى المستوى الوطني، وتبادل الممارسات المثلى والأدوات والمنهجيات، وتزويد المنظمات المحلية بالاستراتيجيات القائمة على الأدلة اللازمة للتمكّن من تطوير مشاريع وتدخلات مستدامة. بطبيعة الحال، فإن الجهات المحلية أكثر كفاءة وفاعلية إلى حد كبير في تقديم الاستجابة الإنسانية المحلية لأنها جزء من نسيج المجتمعات التي تعمل فيها ولديها إدراك محلي أكبر للمجتمعات التي تخدمها والتحديات التي تواجه تلك المجتمعات.
لا تسعى المطالبات الداعية إلى محلية العمل الإنساني إلى استبدال المنظمات الدولية أو تقويضها، بل على العكس من ذلك، فهي تسعى إلى تصحيح الاختلالات في موازين القوى بين الجهود الدولية والوطنية. وعليه، ثمة حاجة إلى تنظيم شراكات متكافئة بين المنظمات غير الحكومية الدولية ونظيرتها المحلية في تدخلات الطوارئ والتنمية، بما في ذلك التوجه إلى اللامركزية في التخطيط للإغاثة لصالح الشراكات المحلية من أجل إجراء تدخلات مستدامة طويلة الأمد ومتعددة المراحل تكون متوافقة مع السياق. حيث إن محلية العمل الإنساني تتجاوز مجرد توزيع الموارد والشراكات النقدية؛ لتشمل إعادة تشكيل ديناميكيات القوة وإعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات ودعم التعلم المتبادل، وتنطوي كذلك على احترام الاحتياجات المحلية والتكيف مع السياق المحلي ودعم انتاج المعرفة المحلية. كما تتضمن تمكين الجهات الفاعلة المحلية والقضاء على التحيزات ومواجهة التأثيرات السلبية للأجندات الأجنبية من خلال تكييف ممارساتها الفضلى مع السياق المحلي.
وعليه من الضروري في هذه المرحلة تسريع دور الجهات الفاعلة المحلية من خلال إشراكها خلال مراحل تصميم المشاريع وتخطيطها وتنفيذها، فضلاً عن تزويدها بالتمويل الكافي حيث إن قدراً ضئيلاً للغاية من التمويل الممنوح من مجتمع المساعدات الدولية يذهب إلى المنظمات المحلية بينما يتم توزيع غالبية التمويل على المنظمات ذات الإدارة والقيادة الأجنبية. كما أن جعل الجهات المانحة جزءاً من الحل من شأنه ضمان المساءلة واستدامة المبادرة على المدى الطويل. بالإضافة إلى أن تعزيز قدرات الجهات الفاعلة المحلية يعمل على تسريع جهود التنمية والاستجابة الإنسانية الدولية وتحسين جودتها ونطاقها.
يجب العمل على تحويل النموذج الحالي من توزيع كافة الموارد القادمة من الجهات المانحة الثنائية والمتعددة الأطراف على المنظمات غير الحكومية الدولية ومقاولي التنمية الدوليين إلى تضمين محلية العمل الإنساني في متطلبات المشاريع. ما نحتاجه هو التزام قوي من مجتمع المساعدات والمانحين الدولي فضلاً عن تفعيل التعاون والشراكات الحقيقية بين الجهات الفاعلة المحلية والدولية. نحن بحاجة إلى ضمان أن يكون أولئك الذين يستفيدون من المبادرات المطروحة جزءاً من الحل، أي استشارتهم خلال كل مرحلة من مراحل المشروع من التصميم وصولاً إلى التنفيذ. إلا أن هذا يتطلب من أصحاب المصلحة الدوليين إظهار المرونة والاستعداد لتكييف أنظمتهم وإجراءاتهم لاستيعاب شركاء محليين جدد قد لا يكونون على دراية بإجراءات التطبيق والامتثال المعقدة وتفضيلات اللغة ومتطلبات إعداد التقارير لكل شريك دولي.
أخيراً، بينما يواجه العالم تداعيات جائحة كورونا (كوفيد-19)، والأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة اللاجئين على نطاق غير مسبوق، علاوة على ارتفاع مستويات التضخم العالمية والتحديات الجيوسياسية وأزمة الطاقة التي تلوح في الأفق في أوروبا، فقد أضحت الحلول الأكثر ديناميكية التي تستثمر في المؤسسات والقدرات المحلية أكثر أهمية من أي وقت مضى. ما نحتاجه هو “نماذج أعمال جديدة”، خاصة تلك التي تقلص التكاليف التشغيلية بكفاءة، وتعمل نحو محلية التنمية، وتمنح صلاحيات أكبر للمنظمات المحلية والمجتمع المدني بشكل عام لاستدامة التنمية والأثر.