ترتبط إشكالية الديمقراطية بمسألة العلمانية، أي بالانتقال من الشرعية الدينية للدولة إلى فكرة السيادة الوطنية والتمثيل الشعبي.
في هذا السياق، يرى المؤرخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه في أعماله الموسوعية حول تاريخ الديمقراطية، أن مسار هذه الفكرة ارتبط بثلاثة مفاهيم أساسية هي: السياسة بما تعنيه من انغلاق الشأن العمومي حول نفسه في إطار مبدأ المحايثة الإنسانية في مقابل معايير التعالي المقدس، والقانون الذي هو التعبير عن الحقوق الفردية للإنسان غير قابلة الإقصاء أو التنازل، والتاريخ الذي هو مرجعية العقلانية السياسية في منظورها التأويلي.
بيد أن العلاقات بين هذه المفاهيم الثلاثة لم تكن بديهية ولا واضحة، ذلك أن الفردية القانونية المطلقة تتنافى بالضرورة مع السيادة الكلية للدولة. كما أن الحركية التاريخية اللامحدودة تتمنع عن كل تجسيد موضوعي واقعي.
بيد أن الفكر الليبرالي الغربي استطاع تسوية هذه التناقضات من خلال حلول مبتكرة ناجعة أبرزها ترجمة السيادة الشعبية في التمثيل الانتخابي، وضبط مدونة حقوق الإنسان في الأطر الدستورية والقانونية للدولة، والنظر إلى الدولة بصفتها التجسيد الموضوعي لحركية التاريخ.
كما يقول غوشيه، كانت هذه التسويات كلها أيديولوجية بل هي معتقدات إيمانية تتركز في مفاهيم ثلاثة هي: العلم، والتقدم والشعب، وإن كانت في ذاتها خارج الإطار الإشكالي لمسألة التنظيم السياسي الحر.
لقد ظلت المسألة الديمقراطية في الفكر الغربي تتأرجح بين ثلاث مقاربات: المقاربة التداولية النقاشية التي تحيل إلى معايير المجتمع المفتوح والجدل العمومي، والمقاربة التمثيلية التي تحيل إلى إجراءات الانتخاب وأساليب النيابة المؤسسية عن الجمهور، والمقاربة التشاركية التي تعني الأطر العملية للاندماج الفاعل في الحياة السياسية.
ولقد تعددت الأنظمة السياسية والدستورية في الديمقراطيات الغربية بحسب أنماط التأليف المختلفة بين هذه المقاربات الثلاث.
في السياق العربي، لم يبرز المطلب الديمقراطي كحركية مجتمعية دافعة وقوية إلا في العقود الأخيرة، لعدة أسباب من بينها:
أولًا: الانزياح الواضح في خطاب الإصلاحية النهضوية بين شعارات الحرية السياسية ومواجهة الاستبداد، والقيم الليبرالية الفردية التي نظر إليها على نطاق واسع على أنها قيم غربية مستوردة وخطيرة لا تتلاءم مع المقومات الحضارية والدينية للمجتمعات العربية الإسلامية. وهكذا، برز خطاب “المستبد العادل”، وتبوأ مفهوم العدالة مكانة الحرية السياسية المنظمة.
ثانيًا: ارتباط التجارب الديمقراطية الأولى في العالم العربي بالأنظمة الموالية للغرب الاستعماري، بما ولّد انطباعًا واسعًا بأن الديمقراطية الليبرالية هي مجرد حيلة مؤسسية لتأمين استمرارية تحكم القوى الاستغلالية والمهيمنة طبقيًّا واجتماعيًّا، تحت رعاية وحماية القوى الأجنبية.
ثالثًا: بروز مفاهيم للديمقراطية متمايزة عن المنظور الليبرالي الفردي، بتأثير واضح من الأيديولوجيات الاشتراكية التي اجتاحت الساحة السياسية العربية، ونعني هنا ما سُمّي بالديمقراطية الوطنية أو الشعبية أو المركزية، التي تدعي التمثيل المباشر لروح الأمة دون الحاجة إلى وسائط حزبية، أو من خلال الحزب الواحد المجسد للإرادة الواحدة للشعب.
نفذ المطلب الديمقراطي بمفهومه الليبرالي التعددي والتمثيلي إلى الساحة العربية بقوة منذ ثمانينيات القرن الماضي في سياق مزدوج: أزمة الأنظمة التسلطية الأحادية التي أظهرت عجزها الفادح عن التحكم في الحياة السياسية التي غدت شديدة التنوع في تركيبتها الأيديولوجية والمجتمعية، وتزايد الضغوط الدولية الخارجية على الأنظمة السياسية العربية من أجل الانفتاح واعتماد الآليات الانتخابية التمثيلية بصفتها تتكامل مع سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة المفروضة من صناديق التمويل الدولية.
لقد تعمقت هذه الديناميكية بعد نهاية الحرب الباردة، إذ قدمت الديمقراطية الليبرالية مسلكًا شرعيًّا أوحد للتنظيم السياسي، وبرزت في الأدبيات الغربية (الأمريكية منها على الأخص)، أطروحة “كسر الاستثناء الاستبدادي في العالم العربي”.
ولا بد من التنبيه هنا أن هذا التحول واكبه جهد نظري واسع لإعادة تأسيس واستيعاب الفكرة الديمقراطية داخل الخطاب السياسي العربي، حتى لدى التيارات القومية العروبية وجماعات الإسلام السياسي.
بيد أن السؤال ظل مطروحًا بقوة بخصوص حدود هذا الاستيعاب للفكرة الديمقراطية: هل يعني الأمر مجرد تأقلم إجرائي ومصلحي بالتعامل مع الديمقراطية من حيث هي مجرد مساطر وآليات تنظيمية وانتخابية تضمن الوصول إلى السلطة؟ أم هي نمط من التركيبة المجتمعية، والثقافة السياسية، والقيم النظرية والمعيارية بدونها لا تكون سوى منظومة من منظومات الهيمنة والتحكم؟
لقد تزايدت هذه الإشكالية تعقيدًا مع ما عرف بموجة الربيع العربي التي كانت حصيلة انتفاضات واسعة ضد أنظمة استبدادية تسلطية هي في مجملها أنظمة عسكرية أحادية.
الجديد في الحوار حول المطلب الديمقراطي تمثل بعد مرحلة الربيع العربي في بروز خط تصادم غير مسبوق بين منطق البناء الاجتماعي الذي يحيل إلى وحدة وتماسك الجسم السياسي المعرض للتفكك والانهيار نتيجة لضعف مؤسسات الاندماج الوطني ومنطق التحرر السياسي الذي يحيل إلى إجراءات وضوابط تنظيم التعددية السياسية القائمة.
الإشكال يعني بعبارات أخرى، البحث عن حلول ناجعة لأزمة الانفصام بين المجتمع والدولة، ما دامت النظم الديمقراطية التي وضعت أصلًا لحسم الصراع السياسي العنيف وتمثيل الجمهور المشتت عبر مؤسسات شرعية منتخبة هي نفسها مصدر التمزق الاجتماعي، والصراع الأهلي والتصادم الأيديولوجي الحاد.كيف يمكن للفكر النهضوي أن يتعامل مع هذا الإشكال المستعصي الذي تتوقف عليه اليوم تجارب الانفتاح الديمقراطي الوليدة في العالم العربي؟
المطلوب هنا هو العمل المتوازي على تكريس قيمة الحرية السياسية والمواطنة المتساوية في الوعي والمتخيل الاجتماعي، وتحصين الدولة السيادية الوطنية التي هي دائرة الانتماء وأرضية الاندماج المجتمعي.
يعلمنا التاريخ الغربي أن الدولة السيادية التعاقدية (بودين وهوبز)، سبقت الدولة الليبرالية الديمقراطية (مونتسكيووروسو)، فكانت الصياغة التأليفية بين عمليتي السيادة والتمثيل سهلة ومرنة، أما في السياق العربي فتبدو التسوية عصية المنال، بما يزيد من تعقيد المسألة الديمقراطية في الخطاب النهضوي العربي الراهن.
لا معنى للخيار بين الحرية والمواطنة، فكلاهما مطلب ضروري وحاجة موضوعية للإنسان العربي، والديمقراطية الحقيقية هي الإطار الضامن لهما معًا.