الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

هل الدولة “القطرية” عقبة في طريق الوحدة العربية؟ بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

اعتاد الفكر القومي العربي، خاصة في مرحلته التأسيسية الأولى، النظر إلى الحدود السياسية القائمة بين الدول العربية باعتبارها عقبة كأداء تحول دون تمكين الشعوب العربية من إقامة دولتهم القومية، ثم راحت هذه الفكرة تزداد رسوخًا وتجذرًّا في الوعي الجمعي العربي، خاصة بعد اتفاقية سايكس-بيكو التي تم إبرامها سرًّا بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 ولم يكشف النقاب عنها إلا بعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام 1917. ولأن هذه الاتفاقية قسمت المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وبريطانيا، راسمة بذلك حدودًا سياسية جديدة بين دول المنطقة، تستند إلى الخريطة التي تم الاتفاق عليها بين دولتي الاستعمار الأوروبي، فقد رأى الفكر القومي العربي فيها دليلًا دامغًا على أن الحدود السياسية التي قامت بين الدول العربية على إثرها هي حدود “مصطنعة” ينبغي العمل على إزالتها كليًّا كشرط ضروري لإقامة الدولة العربية القومية الموحّدة. واتساقًا مع هذا الطرح، تصور كثيرون أن حصول الدول العربية على استقلالها السياسي سيفتح الطريق تلقائيًّا أمام الجهود الرامية لإزالة تلك الحدود “المصطنعة” والتحرك بثبات نحو إقامة دولة الوحدة. غير أن التطورات اللاحقة أثبتت أن هذا النوع من الأطروحات تبدو “رومانسية” إلى درجة كبيرة، وذلك لأسباب عديدة، أهمها:

أولًا: التباين الشديد في طبيعة ونوعية الحدود القائمة حاليًّا بين الدول العربية. فالحدود السياسية لعدد لا يستهان به من هذه الدول، خاصة تلك التي لها تاريخ حضاري قديم، هي في الأصل حدود راسخة ومستقرة منذ آلاف السنين، وبالتالي لا علاقة لها بحقبة الاستعمار الأوروبي، بعكس الحال بالنسبة لعدد آخر من الدول العربية التي ارتبط وجودها بالاستعمار الأوروبي مباشرة، ولم يكن لها بالتالي وجود سياسي قبل الحقبة الاستعمارية.

ثانيًا: التباين الشديد في تأثير الحقبة الاستعمارية على البنى والهياكل السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية القائمة في الدول العربية التي خضعت للاستعمار الأوروبي. فبعض هذه الدول تعرّض لاحتلال استيطاني خلال فترات طالت أحيانًا لما يقرب من قرن ونصف، كاد خلالها يفقد هويته الثقافية والحضارية تمامًا، بينما تعرّض بعضها الآخر لاحتلال عسكري أو نفوذ سياسي وتجاري، ولفترات قصيرة، بدت تأثيراتها محدودة نسبيًّا.

ثالثًا: التباين الشديد في الثمن المدفوع مقابل الاستقلال الوطني. فبعض الشعوب العربية حصلت على استقلالها الوطني في مرحلة مبكرة نسبيًّا وتمكنت من تحقيقه عبر وسائل النضال التقليدية، خاصة السياسية، بينما لم يتمكن بعضها الآخر من الحصول على هذا الاستقلال إلا في مرحلة متأخرة نسبيًّا، واضطر لخوض حروب تحرير مريرة قدم خلالها ملايين الضحايا. أما بعضها الثالث، فقد حصل على استقلاله الوطني من خلال صفقات سياسية مع نخب حاكمة متعاونة مع سلطات الاحتلال. ولا شك أنه كان لهذا التباين تأثيره الخاص على حركة التفاعلات التي استقرت بين الدول العربية والدول الاستعمارية في مرحلة ما بعد الاستقلال.

رابعًا: التباين الشديد في طبيعة النخب الحاكمة في الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وموقف هذه النخب من قضايا الوحدة، والتنمية، والمشروع الصهيوني والعلاقة مع القوى المتحكمة في النظام الدولي… إلخ.

بمرور الوقت، ومع ترسخ أقدام الدولة الوطنية في العالم العربي، من ناحية، وكثرة وتعدد تجاربه الوحدوية الفاشلة، من ناحية أخرى، بدأ يتضح بجلاء أن أطروحة “الحدود السياسية المصطنعة” تتسم ليس فقط بقدر كبير من السذاجة وإنما تعجز في الوقت نفسه عن إيجاد تفسير مقنع للأسباب التي أدت إلى تعثر الوحدة العربية على الصعيدين الفكري والحركي. لذا، يبدو لي أن الفكر القومي العربي راح يستشعر بعض الخطر حين بدأ يدرك أن البديل للدولة الوطنية القائمة حاليًّا في العالم العربي، والتي اعتاد أن يطلق عليها بتعالٍ مشوبٍ بقدر لا بأس به من الاحتقار “الدولة القطرية”، لن تكون دولة “الوحدة العربية” ولا دولة “الخلافة الإسلامية”، وإنما سنكون إزاء مجموعة كبيرة من الدويلات أو الكانتونات الصغيرة التي تبنى على أسس طائفية، أو عرقية، أو قبلية أو إثنية. وفي تقديري أن التيار القومي الرئيسي في العالم العربي أصبح الآن على قناعة تامة بأن الطريق إلى بناء دولة الوحدة العربية لن يكون بهدم “الدولة القطرية” وعلى حطامها، وذلك لسبب بسيط وهو أن الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية القائمة، والتي ينبغي أن نتعامل معها منذ الآن فصاعدًا باعتبارها دولة وطنية وليس دولة قطرية، ينبغي أن يشكل الأساس الصلب لأي عمل قومي أو وحدوي في المستقبل.

إن الإشكالية الرئيسية التي تعاني منها الدولة في العالم العربي لا تتعلق بكون حدودها طبيعية أو مصطنعة، وإنما تتعلق أولًا وقبل كل شيء بكينونتها وبطبيعة علاقتها بالمواطن العربي، أي بما إذا كانت تقوم على مؤسسات تعبر عن الإرادة المجتمعية أم على حكم الفرد المتسلط أو المستبد، وبالتالي تتعلق بشكل وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وما إذا كانت هذه العلاقة محكومة بعقد اجتماعي يحدد حقوق وواجبات كل طرف. ففشل معظم التجارب الوحدوية في العالم العربي لا يعود إلى أسباب تتعلق بطبيعة الحدود السياسية القائمة بين الدول العربية وما إذا كانت حدودًا طبيعية أم مصطنعة، وإنما يعود إلى أسباب تتعلق بالطريقة التي تمت بها معظم التجارب الوحدوية، والتي جاءت عبر قرارات فوقية وعكست الطموحات أو المصالح الشخصية للحكام أو للنخبة الحاكمة بأكثر مما عكست طموحات أو مصالح الشعوب المعبر عنها من خلال مؤسسات سياسية منتخبة. وقد آن الأوان أن ننظر إلى قضية الوحدة بين الدول والشعوب المختلفة، بما في ذلك قضية الوحدة بين الدول والشعوب العربية، بأنها تشبه الشروع في عملية جراحية تستهدف زرع أجساد مستقلة ومنفصلة ودمجها في كيان واحد قادر على العمل من خلال دورة دموية واحدة وجهاز عصبي واحد. ولأن هذا الدمج قد يتطلب سلسلة متكاملة من عمليات جراحية مستقلة ومنفصلة، فإن تحقيق الوحدة بين دول مستقلة ومنفصلة قد يحتاج أحيانًا إلى عملية تكاملية متدرجة، وهذا هو الأسلوب الذي لجأت إليه تجربة الوحدة والتكامل في أوروبا على سبيل المثال.

من المعروف أن التاريخ الأوروبي مليء بالصراعات والحروب الدموية الكبرى، وأن الحدود السياسية بين الدول الأوروبية لم تستقر على حال منذ نشأة الدولة القومية في تلك القارة العجوز في منتصف القرن السابع عشر وحتى الآن. فخلال هذه الفترة الطويلة، نشأت دول أوروبية واختفت أخرى كليًّا، بل يمكن القول إنه لا توجد دولة واحدة من الدول القائمة في أوروبا الآن لم تشهد حدودها السياسية تغييرات كبرى في مرحلة أو أخرى من مراحل تاريخها الممتد عبر القرون. وإذا قارنا مجموعة الدول العربية بمجموعة الدول الأوروبية، فسوف نجد أن المجموعة العربية ترتبط فيما بينها، وعلى كافة المستويات الثقافية، والاجتماعية، والسياسية والتاريخية، بروابط أقوى بكثير من تلك التي تربط بين دول المجموعة الأوروبية. ومع ذلك، فقد نجحت الدول الأوروبية في إقامة تجربة وحدوية تكاملية أقوى بكثير مما استطاعت الدول العربية أن تحققه. لذا، ينبغي علينا أن نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى نجاح الدول الأوروبية في إقامة تجربة الاتحاد الأوروبي الملهمة، بينما أخفقت الدول العربية في إقامة تجربة مماثلة. وتلك قضية تستحق أن نفرد لشرحها وتحليلها سلسلة مستقلة من المقالات، وهو ما نعد أن نقوم به في المستقبل القريب. غير أننا نكتفي هنا بالقول بأن توافر الديمقراطية في التجربة الأوروبية، وغيابها في التجربة العربية، كان من بين أهم أسباب النجاح هناك والإخفاق هنا. لذا، نقترح تخصيص المقال القادم لفحص إشكالية العلاقة بين قضيتي الديمقراطية والوحدة في مشروع النهضة العربية، ثم نعرج بعد ذلك على دراسة مجمل الأسباب التي أدت إلى نجاح تجربة التكامل والوحدة على الصعيد الأوروبي، وإخفاق تجربة التكامل والوحدة على الصعيد العربي.