الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

هل الديمقراطية في خطر؟، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

اعتبر المفكر السياسي الفرنسي المعروف جاك أتالي أن الديمقراطية في خطر اليوم في كل بلدان العالم: في إفريقيا أصبحت تلتبس في أذهان عموم الناس بالاستعمار الجديد إلى حد أن الأنظمة العسكرية المتزايدة في القارة انقلبت على أحكام ديمقراطية دون رد فعل شعبي حقيقي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتزايد الخوف من صعود الشعبوية المناهضة لحقوق الإنسان والفصل بين السلطات، وفي أوروبا نشهد قيام الديمقراطيات غير الليبرالية التي هي نمط من الأحكام الاستبدادية المقنعة. وفي بلدان أخرى مثل الهند وتركيا، تتعايش الديمقراطية مع أنظمة اجتماعية تكرس الإقصاء، والسيطرة، والتفاوت الاجتماعي وانتهاك حقوق الأقليات، بما يحمل على السؤال هل يتعلق الأمر فعلًا ببلدان ديمقراطية بالمعنى الدقيق للعبارة.

ملاحظة أتالي لها شواهد ومبررات كثيرة، ومع ذلك لا مناص من الاعتراف أن الديمقراطية نجحت في حلبة الصراع الفكري ولم يعد أحد يشكك في أنها النظام السياسي الأمثل لضمان حرية الناس وحقوقهم، وتمكينهم من اختيار المؤسسات التي تمثلهم وتعبر عن هويتهم المشتركة.

فحتى الأنظمة العسكرية في إفريقيا تبرر انقلاباتها بفساد وفشل التجارب الديمقراطية التي سبقتها، واعدة بإصلاحات ديمقراطية حقيقية تحقق سيادة الشعب ومصالحه، وكذلك الديمقراطيات غير الليبرالية في أوروبا تنطلق من أولوية مبدأ المشاركة والتمثيل في النظام الديمقراطي على مدونة الحقوق والحريات الفردية.

والحقيقة أن الفكرة الديمقراطية طرحت منذ بداية تشكلها ثلاثة إشكالات أساسية هي:

أولًا: التوتر الداخلي بين فكرة المشاركة الشعبية التي هي مرتكز النظام الديمقراطي ومثال الحرية الفردية الذي هو أساس منظومة الحقوق والقيم الليبرالية. كان المفكر والسياسي الفرنسي بنجامين كوستان قد كتب في دراسة منشورة عام 1819 مقارنًا بين حرية الأقدمين وحرية المحدثين، مبينًا أن الأولى منهما تقوم على المدنية الكاملة والتمييز الضعيف بين الحياة العامة والحياة الخاصة، بما يتجسد في المشاركة الفاعلة والمستمرة في السلطة الجماعية. فالفرد في المجتمع اليوناني القديم حر حرية كاملة في المجال العمومي من حيث هو مواطن كامل الحقوق المدنية لكنه في الفضاء الخصوصي لا يتمتع بأي حرية بما يفسر شيوع العبودية والتراتبية الطبقية في هذا المجتمع. أما في المجتمعات الحديثة، فالحرية هي أساسًا فردية مضمونة كليًا في المجال الخاص، غرضها الاستمتاع الذاتي المؤمن عبر مؤسسات سياسية قوية، فليس على الأفراد أي واجب للتضحية تجاه المجموعة.

من خلال هذا التمييز الذي بلوره كوستان ندرك أن مفهوم المشاركة يطرح تحديًا كبيرًا على المجتمعات الليبرالية الحديثة، لكونه ينتهك في حدوده القصوى الحرية الفردية ما دام متوقفًا على القبول الطوعي للفرد وليس واجبًا مدنيًا، ومن هنا ميل مفكري الديمقراطية المعاصرة إلى أطروحة العقد الاجتماعي للتعبير عن المفهوم الراهن للمشاركة في شكل الوفاق القانوني المجرد والمحدود. فحين تختزل الديمقراطية في مفهوم المشاركة دون منظومة الحقوق الفردية، تفقد قواتها التحررية الحقيقية التي هي الوعي الذاتي المستقل، أما حين لا تكون إلا ائتلافًا نفعيًا من ذوات فردية مستقلة كما هو رأي النزعات الليبرالية المتطرفة، تفقد كل دلالة موضوعية للإرادة المشتركة التي هي قوام الدولة .

ثانيًا: التوتر بين حدي المشروعية والشرعية، أو بين الأخلاق والقانون. فإذا كانت الفكرة الديمقراطية تنطلق من واقع التعددية الفكرية والثقافية في المجتمع، فلا يمكنها تأسيس الإجماع السياسي والمدني على القيم والمعتقدات الجوهرية، كما هو في الحال في السياقات السابقة. من هنا تكون الشرعية في الأنظمة الديمقراطية إجرائية صورية قائمة على الأدوات القانونية الضامنة للسلم الأهلي والتعايش المشترك دون حسم الاعتبارات الأخلاقية والعقدية التي هي خيارات فردية شخصية. ذلك ما عبرت عنه نظرية عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في نموجه الثلاثي حول “الهيمنة الشرعية”، بالتمييز بين الهيمنة التقليدية، والهيمنة الإشعاعية والهيمنة العقلانية البيروقراطية التي هي سمة المجتمعات الليبرالية الحديثة.

بيد أن الإشكال الذي نبه إليه ألكسيس دي تكوفيل هو أن الديمقراطية في حلها الجذري لمشكل الشرعية السياسية تنتهي إلى تسييج الهيمنة السياسية بحيث لا يمكن الخروج عليها ولو في حال التجاوزات والانتهاكات، بما يؤدي بها إلى أن تكون نقيض الغرض الأصلي منها الذي هو الحرية والتحرر في الدائرة المدنية العمومية.

السؤال الكبير المطروح هنا هو إلى أي حد استطاعت مقولة الشرعية في دلالتها الإجرائية التخلص من الأبعاد المعيارية والقيمية للمشروعية بالمعنى الأخلاقي والقيمي، ألا يكون القانون الذي هو في أصله اختراعًا ذاتيًا حرًا أكثر من مدونة إجرائية بل هو البديل الحديث عن التقويمات الجوهرية دينيًا وعقديًا بعد أن أصبح القاعدة المعيارية الصلبة للدولة الحديثة؟

لقد لاحظ يورغن هابرماس أن نظرية الشرعية الإجرائية تمارس نمطًا من التحكم غير المبرر في الوعي الفردي بالفصل بين مضامين الاعتقاد الدينية والقيمية من جهة، واعتبارات الحرية الفردية والتعددية من جهة أخرى، بينما المطلوب فقط هو الاكتفاء بالنقاش العقلاني العمومي المتسع لكل أوجه النظر شرط التزامها بقواعد التداول البرهاني ونبذها للتعصب الذي ليس خاصًا بالأديان وحدها بل قد تكون له جذور تنويرية حداثية .

ثالثًا: التوتر بين البعد القومي المحلي في الديمقراطية كتعبير عن الهوية المدنية الجماعية والمناحي الكونية الإنسانية لفكرتي الحرية والمشاركة. لقد برز هذا الإشكال بقوة بعد تراجع نموذج الدولة القومية وانتكاسة مقولة السيادة الأحادية المطلقة. ومن ثم أصبح النقاش قائمًا بين من يعتبر الدولة الوطنية هي الأفق الوحيد للديمقراطية الليبرالية، ومن يعتبر أن الحالة ما بعد الوطنية تدشن آفاقًا رحبة للديمقراطية في نزوعها الكوني الذي يتناسب مع مرحلة ما بعد الدولة الوطنية.

والرجوع إلى الحديث عن المخاطر التي تواجه الديمقراطية اليوم، يمكن القول إن التجارب والنظم الديمقراطية التي بلورها الفكر السياسي في القرون الثلاثة الماضية بحاجة اليوم إلى مراجعات جذرية، تتعلق بصيغ المشاركة السياسية والبناء المؤسسي العمومي ومدونة الحريات والقيم، بما سنتحدث عنه لاحقًا.