الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الديمقراطيات المعاصرة وأزمة الحكم السياسي
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

يلاحظ الفيلسوف والمفكر الاجتماعي مارسيل غوشيه أن الفكر السياسي الحديث قد أُسس على تبسيط مشكل تجسيد الإرادة المشتركة الذي هو موضوع الحكم التنفيذي. وما استجد اليوم هو أن الديمقراطيات المعاصرة أصبحت تواجه معضلة ضبط الشروط الملائمة والفعالة للتعبير عن الإرادة الجماعية. السؤال المطروح هنا هو: ما هي من هذا المنظور الأدوات التي يمكن للمواطن استخدامها من أجل تنفيذ خياراته وقراراته، ما دامت الدولة غدت عاجزة عن التحكم في المسارات الحيوية وفي مقدمتها الاقتصاد والمسالك المالية، بينما تزداد الحاجة إلى وظائف الحماية والإدماج التي تدخل في نطاق المسؤولية التقليدية للدولة؟

يظهر أن الأزمة السياسية العميقة التي تعيشها المجتمعات الراهنة تتلخص في أزمة الدولة من حيث هي كيان سياسي قادر على التعبير عن الهوية الشاملة للأمة. ومن الجلي أن الحركات الشعبوية الراديكالية تتغذى من هذه الأزمة السياسية العميقة، حتى لو كانت لا تقدم لها حلولاً ناجعة وعملية.
المفارقة الكبرى في هذا السياق، هي أن تراجع الدولة في مسؤولياتها التنفيذية انحسار القدرات التمثيلية للمؤسسات المنتخبة، بما انعكس في تقوّي السلطة التنفيذية على بقية السلطات في النظام الديمقراطي. ومن هنا نعيش أزمة مضاعفة هي أزمة التمثيل الديمقراطي وأزمة السلطة السياسية السيادية.

لقد تناول هذه المفارقة عالم السياسة الفرنسي بيار روزنفالون في كتابه المهم “الحكم الجيد” (صدر سنة 2015 بالفرنسية). في هذا الكتاب يعالج روزنفالون أزمة الديمقراطيات الحالية من زاوية العلاقة بين الحكام والمحكومين التي غدت إشكالية ولم تعد تنسجم مع منطق الفصل بين السلطات. فبعد حقبة هيمن فيها النظام البرلماني الانتخابي، ها هي السلطة التنفيذية تسيطر على كل مسارات الحكم والقرار، بما يفرض إعادة التفكير في آليات التوازن بين المؤسسات الديمقراطية من منطلقات جديدة.
في هذا الباب، يميز روزنفالون بين “ديمقراطية الترخيص” حيث يكون الاقتراع تخويلاً مطلقاً للحكم، و”ديمقراطية الممارسة” التي يكون المعيار فيها هو المصلحة العامة الضامنة للثقة الكاملة بين الحاكم والمحكوم، بما له من آثار ملموسة وعملية في الرهان السياسي.

السؤال المطروح هنا في ضوء ملاحظة روزنفالون هو كيف يمكن أن يكون الحكم السياسي فاعلاً وناجعاً دون أن تقيده أو تلغيه موازين التوافق الاجتماعي، وفي المقابل كيف يمكن أن يكون الحكم عادلاً وناجعاً في الآن نفسه، أي مجسداً للإرادة المشتركة وقادراً على اتخاذ القرارات العاجلة والملائمة التي يقتضيها الزمن السياسي؟

لو رجعنا إلى بواكر الحداثة السياسية، للمسنا بوضوح التوتر الجدلي الواسع بين مبدأ التأسيس القانوني للشرعية السياسية بصفتها نتاج حرية وإرادة المجتمع المدني، ومبدأ السيادة الذي هو مرتكز الفعل السياسي وهو في نهاية المطاف مصدر الشرعية ذاتها.

في هذه الجدلية الحادة، يتم تغييب سؤال الحكم الذي يختزل إما في التطبيق الإجرائي والعملي لقرارات المجموعة المدنية السيادية والحرة، أو يختزل في الإطار الواسع غير المحدد للدولة بحيث لا تكون له دلالة خارج السياق الإداري الضيق.

لقد انتبه إلى هذا المأزق الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت في ملاحظته أن التفكير الليبرالي في المسألة السياسية، لا يمكنه أن يقدم تصوراً إيجابياً ومتناسقاً للحكم، لكونه ينطلق في مقاربته للدولة إما من اعتبارات قانونية اقتصادية أو من خلفيات وضعية إجرائية. وهكذا تغيب في الحالتين السياسة من حيث هي نمط من التدبير السلطوي المعتمد على القرار الحر، فلا ينظر إليها إلا من حيث هي ممارسة قانونية إدارية أو تسيير اقتصادي أو تقني.

في نقده التصور الليبرالي لمسألة الشرعية السياسية، يلاحظ شميت أن هذا التصور يقيم قطيعة حاسمة مع المرجعيات الدينية والتاريخية من منظور قانوني مطلق، لكنه يكرس تبعية الفعل القانوني لمبدأ السيادة الذي لا معنى له في نهاية المطاف سوى السلطة الاستثنائية فوق القانونية. وهكذا يظهر أن الشرعية القانونية تنبع من التحكم والقرارية المطلقة، بما ينتج عنه أن الحالة القانونية ليس لها مرجعية ذاتية منفصلة عن سلطة القرار السيادي المطلق.

لقد تحدث العديد من الباحثين عن ثنائية القائد والخبير في المجتمعات الليبرالية المتقدمة، حيث يفرض التطور التقني والصناعي اللجوء إلى الخبراء الفنيين من أجل إدارة الملفات المحورية في الحياة العمومية، وهم في الغالب خارج الحقل السياسي والانتخابي، في حين يتراجع دور القائد في دائرة الحكم والقرار إلى حد أن أغلب الحكام الجدد في الديمقراطيات العريقة هم من الشخصيات الباهتة التي لا تتجاوز خبرتها القطاعات الإدارية، والمالية والمصالح البيروقراطية الفنية.

ولقد كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران يقول في نهاية حياته إنه هو آخر قائد حقيقي في بلاده، ولن يخلفه سوى “صغار المحاسبين الماليين”. الكلام نفسه يصدق على دول غربية عديدة، بما يفسر جانباً من ردة الفعل الشعبوية العارمة في الغرب حيث نلاحظ ازدياد شخصنة السياسيين وميلهم إلى ارتداء لبوس القادة والزعماء العظام، على الرغم من تضاؤل هامش القرار الفعلي للسياسيين.

كان نموذج السياسي في الليبراليات التقليدية هو الحزبي الممارس من داخل هياكل التعبئة والتحشيد، أو المثقف العضوي الذي ينطلق من أنساق أيديولوجية مؤثرة ومنتشرة، بينما نلاحظ اليوم أن فرسان السياسة الجدد هم في غالب الأحيان من الموظفين الإداريين أو رجال المال والأعمال. لقد واكب هذا التحول انفصام حقيقي بين دائرة الثقافة والتفكير التي هي في طور الانحصار في الفضاءات الأكاديمية، ودائرة التنفيذ والقرار التي تتحكم فيها التخصصات الفنية والتقنية.

ومن هنا ندرك انهيار وسائط كبرى بين الدائرتين، مثل التشكيلات الحزبية التي كانت تضبط إيقاع الحقل السياسي ووسائل الإعلام الكثيفة التي كانت توجه منحى النقاش العمومي. ومع تزايد عزوف الأفراد عن العمل السياسي والأحداث الانتخابية، تحولت البرلمانات في الغالب إلى حلقات فارغة للتداول العمومي، ولم تعد للوجوه السياسية قدرة حقيقية على الجذب والاستقطاب.

وهكذا تبرز الأزمة السياسية في الساحات الليبرالية المعاصرة بوصفها أزمة حكم وأزمة مجتمع معاً.