الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الصهيونية والعداء للسامية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة، برزت أصوات قوية في الإعلام الغربي تطالب بأن يكون أي نقد لإسرائيل أو للمشروع الصهيوني داخلًا في نطاق العداء للسامية. بل إن بعض التشريعات في الدول الغربية انساقت وراء هذا التصور، رغم اتساع نقد إسرائيل والصهيونية في أوساط الجاليات اليهودية وفي إسرائيل نفسها.

ولعل من أهم الأعمال التي تناولت هذا الموضوع كتاب المؤرخ الكندي من أصول يهودية روسية ياكوف ربكين “باسم التوراة: تاريخ المناهضة اليهودية للصهيونية” (الذي كمله بكتاب بعنوان فهم دولة إسرائيل).

ما بينه ربكين هو أن النزعة الصهيونية لم تكن تعبيرًا عن الهوية اليهودية في قالب سياسي وطني، بل كانت في حقيقتها دعوة خطيرة على اليهودية دينًا وأمة، وهي في نهاية المطاف وليدة العداء للسامية وتنطلق من نفس المنطق الذي تصدر عنه كراهية اليهود.

فبالنسبة له، تشكلت النزعة الصهيونية في المناخ النظري والأيديولوجي للأفكار القومية الأوروبية المناوئة للمجتمعات اليهودية، وحملت نفس الرؤية العنصرية لليهود من حيث هم غريبون على النسيج المجتمعي الأوروبي، ومن ثم ضرورة تهجيرهم والإغلاق عليهم في غيتوهات كبرى. ولولا السياسات المعادية للسامية، لما أمكن تأسيس “وطن قومي لليهود” وهو في حقيقته منفى كبير وليس دولة بالمعنى الحقيقي للعبارة.

في هذا السياق يعزو ربكين للمؤرخ الإسرائيلي يوسف سلمون الأستاذ بجامعة بن غوريون قوله “إن الصهيونية هي أكبر خطر لأنها أرادت أن تسرق من الجماعة التقليدية في الشتات وفي أرض إسرائيل كل تراثها، وأن تنتزع منه وعوده المقدسة. لقد تحدت الصهيونية كل جوانب اليهودية التقليدية، من خلال القول بهوية يهودية حديثة وقومية، تخضع المجتمع التقليدي لأنماط حياة جديدة، ومن خلال تعاملها مع المفاهيم اليهودية المتعلقة بالشتات والبعث. وهكذا بلغ خطر الصهيونية كل مجموعة يهودية. لقد كانت الصهيونية حاسمة وحدية، ولذا؛ لا يمكن أن نواجهها إلا برفض لا مهادنة فيه “.

ما أراد أن يبينه ربكين هو أن الصهيونية شكلت دومًا دعوة مرفوضة من المجتمع اليهودي التقليدي، ولم يدعمها في البداية سوى بعض السياسيين المؤدلجين (أغلبهم من أوروبا الشرقية وروسيا) غير المندمجين يهوديًا أو بعض المسيحيين الراديكاليين الذين هم في نهاية المطاف معادون للسامية وإن تبنوا مشروع الدولة من حيث هو بشارة لقدوم المسيح الذي “سيبيد اليهود” بزعمهم.

كان الحاخام الألماني إسحاق بروير الذي هاجر إلى القدس وتوفي فيها سنة 1946 وكتب عدة أعمال حول المشكل اليهودي والتراث اليهودي يرى أن الصهيونية هي “أكثر أعداء الشعب اليهودي شراسة على مر التاريخ”. وقد استخدم صورة معبرة لتجسيد هذا الحكم بقوله “إنها تقتل الشعب ثم تضع جسده على العرش “.

بالاستناد إلى هذه الآراء والاستشهادات يخلص ربكين إلى أن الأيديولوجيا الصهيونية لا يمكن أن تتأسس على شرعية دينية، بل هي في جوهرها نمط من عبادة الأصنام، ولا فرق بين الصنم الخشبي والصنم السياسي الذي هو الدولة العلمانية التي دنست المضمون الديني والقيمي لليهودية. ولقد عبر عن هذا الرأي القائد الروحي للطائفة الحسيدية الحاخام الأشهر شالوم دوف بير شنرسوهن (المتوفى سنة 1920) عندما اعتبر أن الصهيونية هي النقيض المباشر لليهودية، ذلك أن القومية التي هي المبدأ المحدد للصهيونية تتعارض تمامًا مع الطابع المعياري لليهودية في التزامها بنصوص وأحكام التوراة. ومن هنا اعتبر شنرسوهن أن الصهيونية أخطر على اليهودية من المسيحية التقليدية لكونها تحقق بوسيلة تبدو بريئة جوهر الموقف المعادي لليهودية الذي هو إبعاد اليهود عن دينهم وشرعهم.

في الاتجاه نفسه، يورد ربكين قول شولومو أفنري صاحب المؤلفات العديدة حول التاريخ الثقافي اليهودي والمدير الأسبق للشؤون الخارجية في إسرائيل إن الصهيونية أحدثت تغييرًا جذريًا في الوعي اليهودي من خلال الوهم الذي أشاعته حول نفسها من حيث هي التعبير الزائف عن “العودة المقدسة للأرض الموعودة “.

لا يتردد ربكين في القول إن الدولة الإسرائيلية أصبحت اليوم عبئًا ثقيلًا على الشعوب اليهودية، بل إن ربط مصير هذا الدين بهذه الدولة التي اعتبر أنها سائرة حتمًا إلى الاضمحلال والتلاشي سيكون وبالًا عليه. ومن هنا يعتمد رأي العديد من رجال الدين اليهود الذين طالبوا بإنشاء مركز روحي وعقدي خارج إسرائيل وباستقلال عنها، كما طالبوا الجاليات اليهودية في العالم بعدم الانسياق وراء وهم “الهجرة إلى البلاد المقدسة “.

في قراءته للوضع السياسي الحالي، يرى ربكين أن السياسات الإسرائيلية العدوانية والتوسعية هي السبب الحقيقي لتنامي نزعة العداء للسامية في العالم. ودون الحل العادل للقضية الفلسطينية، ستزداد هذه النزعة وتعم في كثير من البلدان بما فيها الدول الغربية الحليفة تقليديًا لإسرائيل.

ولقد اعتقد ربكين أن الحل المنشود يجب أن يكون في شكل دولة كونفدرالية متعددة الهوية القومية والدينية على أرض فلسطين الكبرى تجمع بين اليهود، والمسلمين والمسيحيين. ودون هذا الحل، تبقى إسرائيل دولة استعمارية محتلة وعنصرية لا يمكن أن يكتب لها البقاء مستقبلًا.

توقفنا مطولا عند كتاب ربكين الذي تناول فيه التناقض العقدي والفكري بين اليهودية من حيث هي ملة وثقافة وشريعة، والصهيونية التي هي منظومة أيديولوجية مستمدة من الفكر القومي الأوروبي المعاصر.

ولعل الخلاصة الأساسية التي نخرج بها من هذا الكتاب الثري بالمعلومات، والاستشهادات والآراء الجريئة لكبار رجال الدين اليهود هي أن نقد الصهيونية الذي ينظر إليه في بعض الدوائر الغربية المؤثرة هذه الأيام بصفته داخلًا في نطاق العداء للسامية، هو الاتجاه الغالب في الحقل الديني اليهودي نفسه. ومن ثم فإن الصهيونية لم تكن في حقيقتها تعبيرًا عن الهوية اليهودية كما تدعي في نسختيها العلمانية والدينية، بل هي نزعة تتعارض في الجوهر، والمنطلقات والغايات مع العقيدة الدينية لليهود.

ولذا؛ يمكن القول إن الحل العادل للمشكل الفلسطيني هو الوجه الآخر لحل المشكل اليهودي بالتحرر من السجن الصهيوني.