الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الصهيونية والمؤرخون الإسرائيليون الجدد
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عندما أصدرت عام 2001 كتابي حول أزمة المشروع الصهيوني ومستقبل إسرائيل، تعرضت لأعمال تيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذي كان أوانها غير معروف في الكتابات العربية رغم أهميته الفائقة في إسرائيل وفي الساحة الغربية.
الأمر هنا يتعلق أساسًا بخمسة مؤرخين بارزين هم: سيمحا فلابان، وبني موريس، وتوم سيغف، وإيلان بابيه وآفي شلايم، وقد أصبحت كتاباتهم متوفرة باللغات العالمية الكبرى. ما يجمع بين هذه الوجوه الخمسة هو تفكيك السردية الصهيونية الرسمية حول تأسيس الدولة اليهودية من حيث النشأة والعلاقة بالسكان المحليين من الشعب الفلسطيني.

أما سيمحا فلابان فقد توفي سنة 1987 وله كتابان أساسيان هما: “الصهيونية والفلسطينيون” (1979) و”ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق” (1987). في هذين الكتابين، ينيط اللثام عن ظروف قيام إسرائيل وما واكبه من تهجير قسري للفلسطينيين، مفندًا الأطروحة الصهيونية التقليدية حول الهجرة الطوعية العربية عند إعلان الدولة سنة 1948. وهكذا يبين فلابان بالدليل القاطع أن تفريغ الأرض من السكان وطردهم من قراهم ومدنهم هما من الأهداف الكبرى للمشروع الصهيوني، وقد كان دور رئيس الحكومة بن غوريون حاسمًا في هذا المسار، ولم يكن ثمة تأثير نوعي لتوجهات وقرارات القيادات الفلسطينية من أمثال المفتي أمين الحسيني.

وقد واصل بني موريس هذه الاكتشافات التاريخية من خلال دراسات موسعة للوثائق الإسرائيلية السرية التي أصبحت متاحة للباحثين في ثمانينيات القرن الماضي.
من أهم كتب موريس “نشأة مشكل اللاجئين الفلسطينيين” و”1948 وما بعدها: إسرائيل والفلسطينيون”. في هذين الكتابين، يبين أن 700 ألف لاجئ فلسطيني الذين غادروا البلاد غداة إعلان الدولة العبرية هُجروا في غالب الأحيان بالقوة من خلال الاعتداءات العسكرية، واستخدام الأسلحة البيولوجية وتسميم الآبار. ولقد اضطلعت عصابات الهاغانا والجيش الإسرائيلي بالجانب الأوفر من هذه المهمة التي كانت مطروحة منذ الثلاثينيات في الأدبيات الصهيونية. وفق هذه الرؤية، لا يختلف المخطط الصهيوني عن مشاريع الاستيطان الإحلالي من حيث إجراءات التطهير العرقي وقمع وإجلاء السكان الأصليين. ففي سنة 1880 لم يكن عدد سكان اليهود في فلسطين يتجاوز 15 ألف فرد، ولذا لم تنجح القيادات الحاكمة في تشكيل دولة الأغلبية اليهودية إلا بالعسف والقهر. وعلى عكس الدعاية الإسرائيلية الشائعة، لم تكن الدولة العبرية ضعيفة ومحاصرة في حرب 1948، بل إنها كانت متفوقة عسكريًا على أعدائها العرب الذين لم يواجهوها بجدية، والحال أن لإسرائيل صناعة عسكرية صلبة منذ الثلاثينيات كما أنها استطاعت الحصول على صفقة عتاد تشيكي قبل الحرب.

إلا أن بني موريس تحول في السنوات الأخيرة إلى صف الصهيونية المتطرفة وانحاز إلى السياسات العدوانية لحكام تل أبيب، دون أن يتراجع عن آرائه التاريخية. بل إنه في مقابلة أخيرة مع صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” (27 تشرين الثاني/نوفمبر 2023) دافع عن حرب نتنياهو الجارية في غزة، ذاهبًا إلى حد طرح إمكانية طرد الإسرائيليين العرب وتهجير سكان غزة.

أما توم سغيف، فقد كتب عملين أساسيين هما “المليون السابع: الإسرائيليون والإبادة” و”1967: ستة أيام غيرت العالم”. ما يميز كتابات سغيف هو إبرازه العلاقة الوثيقة بين الحركة الصهيونية والنازية، مع تبيين أن مواجهة العداء للسامية لم تكن من أهداف التيار الصهيوني، بل إن مصالحهما التقت موضوعيًا في نقل اليهود الأوربيين إلى فلسطين.

 

لقد فاوض القادة الصهاينة إجراءات التهجير مع النازيين، واستفادوا من سياسات الإبادة اليهودية وحولوا حادثة المحرقة إلى سردية مؤسسة للتقليد السياسي الإسرائيلي. وبعد أحداث 1967، تواصل استغلال المحرقة في السياسات التوسعية القمعية للفلسطينيين، بنشر وهم “القلعة المحاصرة” الذي لا أصل له.

ما يخلص إليه سغيف هو أن مسار دمج المحرقة في السردية الإسرائيلية قد أفضى في نهاية المطاف إلى نسف المثال الصهيوني الساعي إلى تطبيع الوجود اليهودي الذي غدا اليوم مستحيلًا.

أما إيلان بابيه وآفي شلايم فيتميزان بدعمهما القوي لكفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال والقمع من خلال أعمالهما العلمية ومواقفهما السياسية المعلنة.
كتب إيلان بابيه سلسلة أعمال مهمة عن تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي من أهمها “نشأة الصراع العربي الإسرائيلي: 1947- 1951″ و”القضية الإسرائيلية الفلسطينية” و”التطهير العرقي في فلسطين”. في الكتاب الأخير، يبين بابيه أن حركة اللجوء الفلسطيني كانت نتاج عملية تطهير عرقي حقيقي مخططة بإتقان وتفصيل من قيادات الدولة الإسرائيلية وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بن غوريون . فلم تكن الدولة العبرية لتنشأ دون قلب جذري بالعنف للتوازنات السكانية، بضم 78 بالمئة من أرض فلسطين وطرد أعداد هائلة من الفلسطينيين الذين كانوا يمثلون ثلثي البلاد سنة 1947 مقابل الثلث اليهودي. وهكذا تم تحطيم 500 قرية فلسطينية وأخليت مدن كاملة من سكانها العرب، انسجامًا مع الرؤية الأيديولوجية الصهيونية التي تقوم على فكرة الاستيطان الإحلالي القسري.
ويرى بابيه أن مسار التطهير العرقي لا يزال هو أفق المشروع الصهيوني الذي لن يتخلى عنه في المستقبل، وسيسعى إلى مواصلته على الأرض للحيلولة دون قيام كيان فلسطيني مستقل.

بعد أحداث غزة الأخيرة، وقف بابيه بشجاعة ضد الحرب على القطاع واعتبر أن سياسة اليمين المتطرف الخرقاء تؤدي إلى مخرج وحيد هو فلسطين الكبرى المحررة من الصهيونية بشعبها الموحد وسكانها العائدين من المنفى.

أما شلايم فهو يهودي عربي كما يقول عن نفسه، تعود جذوره العائلية إلى العراق التي غادرها في سن الخامسة من العمر، وهو اليوم أستاذ بارز في الجامعات البريطانية.
في كتابه الأساسي “الجدار الحديدي والعالم العربي”، يبين شلايم أن السياسات الإسرائيلية في فلسطين تتأسس على أطروحة زئيف جابوتسكي التي بلورها سنة 1923 في مقالة شهيرة ذهب فيها إلى ضرورة بناء سياج حديدي بين اليهود والعرب يحقق الدولة العبرية المنشودة بالقوة والسلاح وبطريقة انفرادية لا تفاوض فيها ولا توافق. فهذه الأطروحة تشكل الجوهر الثابت لكل السياسات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، وتكرس عقيدة التوسع الانفرادي القسري التي يتفق حولها كل القادة الإسرائيليون. ومن ثم يرى شلايم أن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة لا معنى لها في هذا التصور الذي يحكم الرؤية الإسرائيلية للقضية الفلسطينية.

بعد حرب غزة الأخيرة، حذر شلايم الغربيين من الوقوف مع الجرائم الإسرائيلية في فلسطين، ومن سياسة المعايير المزدوجة التي ستنسف الضمير الأخلاقي الأوروبي بالسكوت أو التواطؤ مع إحدى أخطر الجرائم ضد الإنسانية.