الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب وتجارب العدالة الانتقالية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

بعد موجة “الربيع العربي”، ظهر اتجاه واسع إلى اعتماد مفهوم “العدالة الانتقالية” لإدارة مخلفات الأنظمة التسلطية التي أسقطتها الانتفاضات الشعبية في عدد من دول المنطقة، خارج المقاييس القانونية التقليدية.

لقد كانت نقطة الانطلاق في هذا التوجه هي إدراك صعوبات ومخاطر تصفية تركة العهود الاستثنائية وفق منطق العدالة التقليدية، نتيجة لعاملين أساسيين هما: التباس التجاوزات والانتهاكات الحقوقية بالاعتبارات السياسية بما يحول دون التعامل معها كجرائم عادية، وضرورة اعتبار التحديات المستقبلية لبناء النظام الديمقراطي التعددي وفق متطلبات الإجماع الداخلي والسلم الأهلي.

ومع أن مصطلح “العدالة الانتقالية” دخل في الأدبيات السياسية والقانونية منذ نهاية الثمانينيات وأصبح مرجعية ثابتة لدى المؤسسات الدولية كما اعتمد في أكثر من خمسين دولة من بلدان العالم خصوصًا في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية، إلا أنه لم يخل من تعقيدات إشكالية كثيرة .

يقوم هذا المفهوم على ثلاثة مكونات محورية هي: الحق في العدالة، وواجب الكشف عن الحقيقة، والحق في تعويض الضحايا .

ما تفضي إليه هذه المقاربة هو الانتقال من المفهوم القانوني للعدالة الذي يتمحور حول معايير الجزاء والقضاء إلى مفهوم سياسي ومجتمعي، لا يكتفي بإقرار الحقوق ومعاقبة الاعتداء والانتهاك، بل يسعى إلى تغيير المجتمع وإعادة بنائه والمصالحة بين أفراده.

المسلّمة المعتمدة هنا هي قدرة الحوار الشفاف والتصالح على رتق شقوق وتصدعات المجتمع وتعويض إجراءات التقاضي، بحيث تضمن حقوق الضحايا وتعلق العقوبات على المعتدين عن طريق آلية “الحقيقة والمصالحة”.

 

في بلدان أمريكا اللاتينية التي عرفت فظائع الاستبداد الاستثنائي، جربت مقاربة العدالة الانتقالية من أجل غاية عملية إجرائية هي ضرورة التعايش والتوافق بين النخب السياسية والعسكرية التي كانت حاكمة والقوى الديمقراطية المستفيدة من مناخ الانفتاح والتعددية.

وفي بلدان أوروبا الشرقية التي كانت تحكمها الأنظمة الشيوعية، اعتمدت المقاربة ذاتها التي اعتبرت ضرورية لا محيد عنها نتيجة لاتساع القاعدة المجتمعية للنظام السياسي المنهار الذي كان مهيمنًا على كل تفصيلات الجسم الاجتماعي. وقد نظر إلى التجربة البولندية بصفة خاصة على أنها نموذج بارز لنجاح العدالة الانتقالية بما يفسر صلابة واستقرار التحول الديمقراطي في هذا البلد الذي انطلقت منه الانتفاضة ضد الحكم الاشتراكي.

بيد أن تجربة جنوب إفريقيا بعد إلغاء نظام التمييز العنصري في بداية التسعينيات أصبحت بالنسبة للباحثين في مفهوم العدالة الانتقالية هي التجربة المثالية الناجحة، نتيجة لتجاوزها الباهر لتركة الأبارتايد الفظيعة. لقد أسس الزعيم الجنوب الإفريقي الكبير “نلسون مانديلا” لهذا النهج بقوله: “إن جنوب إفريقيا لا يمكنها أن تتحمل أعباء الحقد الشخصي ولذا لا سبيل لمقاضاة الماضي”. ولقد اعتمد دستور الدولة الجديدة في جنوب إفريقيا مبدأ العفو والمصالحة مرتكزًا للنظام السياسي الجديد، وأسست لجان “الحقيقة والتوافق” من أجل تصفية تركة عهد الفصل العنصري وفق خلفية مزدوجة تجمع بين الحكمة الإفريقية المحلية ولاهوت التسامح المسيحي .

 

ولقد جرت محاولات للاستفادة من التجربة الجنوب الإفريقية في عدة بلدان عربية، تركزت في المغرب وتونس،  بدأت المحاولة في المغرب منذ سنة 2004 بتأسيس “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي فتحت ملفات ما أطلق عليه “سنوات الرصاص” من سنة 1965 إلى سنة 1999. ولقد راعت التجربة المغربية نفس محددات النموذج الجنوب الإفريقي من التحقيق في ملفات الماضي، وطقوس الاعتراف، وطلب العفو وتعويض الضحايا. وهكذا سمحت هذه التجربة بتنقية المناخ السياسي في المغرب وفسحت المجال أمام توافقات جديدة بين مكونات الطيف السياسي عززت خيار التناوب الذي اعتمدته المؤسسة الملكية منذ سنة 1999.

 

أما التجربة التونسية التي بدأت أيامًا قليلة بعد سقوط نظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011 فقد تأرجحت بين مقاربة الحقيقة والمصالحة والتوظيف السياسي لمفهوم العدالة الانتقالية في إقصاء النخب السياسية الحاكمة في العهود السابقة، وتكريس سيطرة ونفوذ القوى السياسية المستفيدة من التغيير وبصفة خاصة حركة النهضة الإخوانية التي سيطرت على الهيئة الحكومية المسؤولة عن العدالة الانتقالية. 

في العراق بعد سقوط النظام البعثي في 2003، اختارت السلطات الانتقالية المدعومة أمريكيًّا خيار العدالة القضائية التقليدية لمحاكمة تجاوزات العهد السابق، بما أفضى إلى إعدام رموز النظام المنهار بما فيها رئيسه صدام حسين وأبرز المقربين منه، مع إصدار القوانين والنظم الكفيلة بتصفية تركة الماضي والقطيعة مع النظام الحاكم سلفًا. إلا أن المقاربة القضائية التي تم اعتمادها أدت حسب رأي الكثيرين إلى تأجيج الاحتقان الداخلي وتفجير الصراع الأهلي، بما اقتضى من بعض الشخصيات العراقية الوزانة الدعوة إلى اللجوء لنهج العدالة الانتقالية من أجل تحقيق المصالحة الداخلية الشاملة التي هي شرط الاستقرار السياسي والديمقراطية التعددية السلمية .

في ليبيا، جرى الجمع بين نموذجي العدالة القضائية التقليدية والعدالة الانتقالية، دون نتائج ملموسة واضحة. وفي سوريا، حيث كان ثمن التمرد ضد النظام باهظ التكلفة، ولا زالت الأزمة الداخلية في أوجها، بدأت بعض الأصوات تطرح خيار “العدالة الانتقالية” لانتشال الدولة وحماية النسيج الأهلي المتمزق، بيد أن الشروط الموضوعية لنجاح هذا الخيار ما تزال مفقودة. 

 

ما الذي نستنجه من هذا الاستعراض المقتضب لمفهوم العدالة الانتقالية وتجارب تطبيقه واستنباته عربيًّا؟

ما يمكن استخلاصه من الأفكار والمعطيات المذكورة آنفًا هو أن مصطلح العدالة الانتقالية في ما وراء شحنته القانونية الإشكالية والمعقدة يكشف عن قصور وعقم الحلول القضائية التقليدية في بلدان تعيش صدمات التحول من النظم الاستبدادية الاستثنائية إلى الإدارة الديمقراطية للتنوع السياسي والمجتمعي.

 

وفي بلدان -مثل الدول العربية- لا تتوفر على نظام قضائي مستقل وفاعل، يصبح هذا النموذج ضروريًّا وملحًا لتهيئة الأرضية الملائمة للتغيير الآمن، ولضمان السلم الأهلي والمدني الذي هو شرط التحول الديمقراطي الناجع.

 

بيد أن الخشية قائمة من أن يصبح مفهوم العدالة الانتقالية أداة من أدوات التلاعب السياسي في ساحات ملتهبة متفجرة، فيتحول إلى معول لنسف الاستقرار السياسي والسلم الأهلي.