الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب ونموذج الانتقال السياسي في أوروبا الشرقية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

كان المفكر السياسي الأمريكي المعروف صامويل هنتغتون قد تحدث في بداية التسعينيات عن “الموجة الثالثة” من التحول الديمقراطي التي حدثت في أوروبا الشرقية التي كانت تحكمها أنظمة اشتراكية موالية للاتحاد السوفياتي الشيوعي.

في كتابه “الموجة الثالثة: الانتقال للديمقراطية في نهاية القرن العشرين” 

The Third Wave: Democratization in the Late 20th Century

يذهب هنتغتون إلى أن أوروبا استكملت تحولها للديمقراطية إثر سقوط الأنظمة الشيوعية، فسلكت بلدان شرق ووسط أوروبا المسار الانتقالي الناجح بمكوناته الثلاثة: الليبرالية السياسية التعددية، واقتصاد السوق والاندماج في الاتحاد الأوروبي. 

وبطبيعة الأمر، لم تكن تجارب هذه الدول متماثلة من حيث نسبة النجاح في الانتقال الديمقراطي. عادة ما يتم التمييز بين المسارات الناجحة في دول البلطيق وسلوفانيا وكرواتيا، والتجارب غير المكتملة في جنوب شرق أوروبا (رومانيا وبلغاريا)، والتجارب المتعثرة في غرب البلقان (ألبانيا والدول المنفصلة عن الاتحاد اليوغسلافي).

ومع أن كل هذه الدول عرفت مسالك التعددية الحزبية والانتخابات التعددية، واعتمدت نظام السوق الحر، وانضم العديد منها للاتحاد الأوروبي (مثل بلغاريا، وكرواتيا، وهنغاريا، ورومانيا وبولندا وغيرها)، إلا أنها عرفت في غالبها في السنوات الأخيرة انتكاسة حقيقية في التحول الديمقراطي. 

ومن مظاهر هذه الانتكاسة صعود الحركات الشعبوية القومية الراديكالية التي أصبحت تحكم في عدد من أهم دول أوروبا الشرقية والوسطى، في مقدمتها هنغاريا وبولندا. وقد كثر مؤخرًا الحديث عن محور “بودابست-فرسوفيا” الذي يستقطب قوى سياسية مؤثرة وفاعلة في الإقليم، بدأت تتبنى بوضوح مفهوم “الديمقراطية غير الليبرالية”Illiberal democracy  الذي بلوره الكاتب الأمريكي “فريد زكريا” واعتمده الوزير الأول الهنغاري فيكتور أوربان الذي يحتفظ بمركز السلطة الأول منذ سنة 2010. لقد حول أوربان “حركة الشباب الهنغاري” إلى حزب محافظ قوي أصبح يحمل اسم “التحالف المدني الهنغاري” له الهيمنة الواسعة على الحياة السياسية، إلى حد فرض دستور قومي يميني متعصب، وقوانين مناهضة لليبرالية والحداثة والهجرة وحق اللجوء السياسي، بما جرّ عليه نقمة وامتعاض الاتحاد الأوروبي. 

لا يختلف نهج رئيس الوزراء البولندي ماتيوس موراوسكي الذي يحكم البلاد منذ سنة 2017 عن هذا النهج المحافظ غير الليبرالي، من خلال هيمنة حزبه “القانون والعدالة” على المجالس المنتخبة. نلمس في خطاب موراوسكي نفس الحملة الشرسة ضد الليبرالية والفردية، ونفس التعلق بالقيم الدينية التقليدية وبقبضة الكنيسة على المجتمع والدولة.

وفي حين تشارك الأحزاب اليمنية المتطرفة في حكومات ليتوانيا وسلوفاكيا، يتزايد حضور ونفوذ التيارات المحافظة المتشددة في أغلب بلدان شرق أوروبا. 

ولقد قدمت عدة مقاربات لتفسير صعود النزعات الشعبوية غير الليبرالية في دول شرق ووسط أوروبا. لقد تحدث الفيلسوف البولندي مارسين كلور عن “ديمقراطية الإحباط” التي ظهرت في الدول الأوروبية الشرقية بعد سنوات من الانفتاح الليبرالي والانتقال السريع من الاشتراكية المركزية إلى الرأسمالية الفردية. من هذا المنظور، تكتسي العودة إلى المنظور السيادي التقليدي للدولة القومية أهمية خاصة في إطار تنشيط دولة الرعاية والرفاهية، وتخويلها دور حماية الأمة والذود عن هويتها. 

أما عالم الاجتماع البولندي زديدسلاف كراسدنوبسكي في كتابه “ديمقراطية الأطراف” فيعتبر أن مسار الانتقال الديمقراطي الذي عرفته دول أوروبا الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة فشل بصفة كلية، نتيجة لانحسار النموذج الليبرالي الفردي والتعددي في مهده الأصلي في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. ينتقد كراسدنوبسكي بقوة النخب الليبرالية البولندية التي قادت عملية الانتقال السياسي بمحاولة فرض واستنبات النموذج الرأسمالي الغربي، بما يتعارض مع المفهوم الإيجابي للحرية والمشاركة السياسية بما يقتضيه من انغراس عميق في التقاليد الثقافية والمجتمعية بما فيها النظم الدينية التي تختزن الهوية الشعبية المتجذرة.

نلمس في كتابات المفكرين المحافظين في أوروبا الشرقية نفس الخطاب النقدي لليبرالية الفردية غير المتجسدة في سياقات قومية وثقافية والمحايدة إزاء مختلف المنظومات القيمية والمعنوية الكبرى (أطروحة جون رولز)، مع البحث عن سمات الخصوصية والتميز في المجتمعات الأوروبية الشرقية حيث لعبت الكنيسة والمؤسسة الدينية في الغالب دورًا أساسيًّا في عملية التغيير والخروج من العهد الشيوعي. ومن هنا طغيان المقاربة الثقافية في الخطاب السياسي والإستراتيجي، بانعكاساتها العنصرية والانكفائية على غرار أيديولوجيا “الديمقراطية السيادية” التي يدافع عنها الرئيس الروسي بوتين والتيار الأورو آسيوي الداعم له.

هل نستنتج من هذه الملاحظات أن مسار التحول الديمقراطي قد فشل في أوروبا الشرقية؟ وما هي الدروس المستفادة منه عربيًّا؟

إن التجربة الأوروبية الشرقية تبين لنا الإشكالات المعقدة التي يطرحها التزامن العضوي بين الليبرالية السياسية التي هي جوهر الديمقراطية التعددية، واقتصاد السوق الحر الذي يعني في نهاية المطاف الاندماج في الرأسمالية المعولمة. 

لقد أشارت دراسات عديدة في البلدان الغربية ذات التقاليد الديمقراطية العريقة إلى التعارض في المنطق والنتائج بين الحرية السياسية المستندة لإرادة الفرد وسيادة الأمة مع الانخراط في النظم الاندماجية ما فوق قومية لأسباب ترجع إلى الفاعلية الاقتصادية والمصالح المترتبة على الشراكة العالمية. وفي أوروبا الغربية، ارتفعت أصوات تنبه إلى خطر المنظومة الاتحادية الأوروبية على الديمقراطية السيادية وعلى فكرة المواطنة في دلالتها العينية العملية. 

وما يحدث غالبًا في الديمقراطيات الوليدة هو خضوع الدول الاضطراري لسياسات وخطط مؤسسات التمويل والاستثمار الخارجية، في تعارض واضح مع مصالح وتطلعات الشعوب، بما يؤول إما إلى تقويض الحريات العمومية باسم المصالح العليا للدول، أو إلى سيطرة الأنظمة الشعبوية المغامرة التي لا بد من أن يكون مصيرها الفشل والإخفاق. 

ذلك هو الدرس الذي لا بد لدعاة التغيير الديمقراطي في العالم العربي أن يفكروا فيه بعمق ومسؤولية.