الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكر العربي والمسألة الأيديولوجية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

مع أن مفهوم “الأيديولوجيا” تراجع قليلًا في الفكر العربي في السنوات الأخيرة، إلا أنه شكّل محور التفكير الفلسفي والاجتماعي والتاريخي في الخطاب العربي المعاصر طيلة النصف الثاني من القرن العشرين .

ومن المعروف أن هذا المفهوم ينتمي إلى السياق الماركسي، حيث يتأرجح بين مفهوم البنية الثقافية الفوقية التي تعكس العلاقات الإنتاجية المادية ومفهوم الوعي الزائف غير المتطابق مع الواقع الاجتماعي الموضوعي .

 

شاع المفهومان في الفكر العربي، وانتشرت المقولة بقوة منذ أصدر المفكر المغربي المشهور عبدالله العروي كتابه “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” سنة 1967.

أثار هذا الكتاب منذ نقله إلى العربية جدلًا واسعًا، اقتضى من المؤلف بعد سنوات من صدوره نشر كتاب توضيحي بعنوان “مفهوم الأيديولوجيا”.

ومع أن عبدالله العروي يفرق بين ثلاث مقاربات ممكنة في تصور الأيديولوجيا (الأيديولوجيا كقناع، والأيديولوجيا كرؤية كونية والأيديولوجيا كنظرية في المعرفة والوجود)، إلا أنه في كتابه المذكور استخدم مفهوم الأيديولوجيا أساسًا بمعنى الوعي الزائف أي “الصورة الذهنية المفارقة لأصلها الواقعي” و”النظام الفكري الذي يحجب الواقع” و”النظرية المأخوذة من مجتمع آخر توظف كنموذج يقود الممارسة ويتحقق أثناءها”.

كان العروي مثل أغلب المفكرين العرب أوانها متمسكًا بأطروحة الاستلاب -الوعي الزائف التي بسطها ماركس في كتاب “الأيديولوجيا الألمانية”.

لم تكن مقاربة الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير في تجديد قراءة أعمال ماركس في مرحلة النضج (كتاب الرأسمال على الأخص) قد نفذت إلى الفكر العربي، فلم يستفد من نقده للنزعة الإنسانية الماركسية التقليدية وما يتعلق بها من أطروحة الاستلاب والوعي، ومن نقده أيضًا للأطروحة التحديدية المادية التي لا ترى في الثقافة سوى بنية فوقية لا قوام لها في ذاتها. ولقد ظل الإسهام الألتوسري محصورًا في تمييزه الصارم بين العلم والأيديولوجيا وفي نظريته حول “الأجهزة الأيديولوجية للدولة”.

كما أن الفكر العربي لم يستفد من أطروحات الجيل الجديد من مدرسة فرانكفورت النقدية التي ظلت وفية للرؤية الماركسية العامة، وإن تخلت عن مقاربة الأيديولوجيا بصفتها قناعًا مزيفًا ووعيًا مستلبًا. 

 

في هذا السياق، نشير إلى أعمال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي ميز منذ كتاباته الأولى بين المعرفة التحكمية الإجرائية التي تصدر عن العقلانية التقنية ومنطق الإنتاج والمعرفة التحررية التي تصدر عن العقلانية الاتيقية التواصلية. ولقد خلص هابرماس من هذا التمييز إلى أن العلم (والتقنية) ليس بديلًا عن الأيديولوجيا بل هو من صنف الأيديولوجيا، والفكر النقدي وسيلة للتحرر والانعتاق عن طريق العقلانية التواصلية البرهانية وليس نتاج وعي طبقي ضيق. 

والواقع أن هذه التمييز بين السياق المادي والإنتاج الثقافي قد انهار كليًّا في اجتماعيات الثقافة وبصفة خاصة لدي عالم الاجتماع المعروف جورج بورديو الذي انطلق أصلًا من مقاييس ماركسية في نظريته في مادية الحقول الثقافية وبصفة خاصة الحقل الديني الذي اعتبر انه يؤثر عمليًّا في الممارسة الاجتماعية أكثر من تأثير الحقل الاقتصادي الإنتاجي. 

 

لم تدخل هذه الأفكار إلا متأخرة في الفكر العربي المعاصر الذي هيمن عليه الاستخدام الماركسي التقليدي للأيديولوجيا، بما نلمسه أساسًا لدى مؤرخي الفكر مثل محمود إسماعيل والطيب تزيني وحسين مروة. ما يجمع هؤلاء المؤرخين البارزين على اختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم هو النظر إلى مدارس وتحولات التراث العربي الإسلامي الوسيط من حيث كونها انعكاسات لصراع اقتصادي اجتماعي تتصادم فيه أيديولوجيات لها موقعها ودورها في الصراع القائم. 

ومع أن المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري انتقد بقوة هذا المنهج الماركسي التقليدي الذي اعتبر أنه يتعامل مع الماركسية كنظرية جاهزة مطبقة وليس كمنهج للتطبيق، إلا أنه حافظ على التحليل الأيديولوجي كخطوة تكميلية للتحليل البنيوي التاريخي. ما يهم الجابري بعد أن يكشف عن محددات وثوابت البنيات الثقافية ويدرس سياقات تكوينها هو رصد دلالاتها ووظائفها الأيديولوجية في الصراع الاجتماعي.

ومن هنا يتحول التاريخ إلى لوحة إسقاط لهموم ورهانات الحاضر، حيث يواجه ابن رشد وابن خلدون في نزوعهما “العقلاني” غنوصية ابن سينا والغزالي، وتواجه أخلاق السعادة لدى الفلاسفة أخلاق الطاعة ذات الجذور الفارسية. 

مع نهاية الثمانينيات وانحسار التجربة الماركسية، تقلص الاهتمام بالأيديولوجيا، بل كثر الحديث في الأدبيات العربية السيارة عن نهاية الأيديولوجيات من منطلق العولمة الكونية في نظامها الليبرالي وطريقة تدبيرها الأحادية لشؤون الدولة والمجتمع. 

ولقد عانى المشروع النهضوي التحديثي العربي من هذا التوجه الذي انعكس في العديد من الأدبيات التي تعلن موت المثقف ونهاية عصر النخبة (من أهمها كتاب المفكر اللبناني علي حرب: أوهام النخبة أو نقد المثقف). لقد استند هذا التوجه إلى الكتابات الفلسفية الغربية المعاصرة التي سلكت مسلك التفكيك في نقد رسالة المثقف من حيث كونه موجه الوعي الجماهيري وصاحب رسالة التغيير الاجتماعي (مقولة المثقف العضوي لدى الفيلسوف الإيطالي غرامشي). في الغرب، انتصرت حفريات ميشل فوكو، وتفكيكية جاك دريدا وتهكمية ريتشارد رورتي على أخلاقيات الالتزام لدى جان بول سارتر الذي كان آخر فيلسوف آمن برسالة المثقف الشامل من منطلق الماركسية التي اعتبر أنها أيديولوجيا “لا يمكن تجاوزها”.

وهكذا انعكست نهاية “المسألة الأيديولوجية” في الفكر العربي على الحقل السياسي الذي انهارت فيه التنظيمات العقدية والأحزاب الأيديولوجية العريقة وبصفة خاصة أحزاب اليسار القومي والماركسي التي لم تعد قادرة على استقطاب الوسط الثقافي والتأثير في الرأي العام في مرحلة شهدت في العديد من الدول العربية تجارب الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي .

بعد أربعين سنة من صدور كتابه “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”، عاد عبدالله العروي إلى معالجة إشكالية الإصلاح والتجديد، لا في أفق الوعي الأيديولوجي ولكن من منظور التقليد الذي عبر عنه بمقولة “السنة”. ولقد كان في هذا التوجه منسجمًا مع صعود المقاربة التأويلية في النظر للتاريخ الثقافي العربي الإسلامي التي أعادت الاعتبار للنص والدلالة والمعنى في مقابل السياق المادي والرهانات المجتمعية.