الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكر العربي وسؤال التقليد، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

في الفكر الفلسفي والاجتماعي الغربي لا معنى لمقولة التراث التي استخدمت على نطاق واسع في الفكر العربي المعاصر، بل إن المقولة المستخدمة هي مفهوم “التقليد” (Tradition)  الذي له جذور فكرية عميقة.

ما يتعين التنبيه إليه هو أن القطيعة مع التقليد بدأت في العصور الحديثة مع الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي استعرض في كتابه “حديث الطريقة” (أو خطاب المنهج) معارف وعلوم عصره، منتهيًا إلى ضرورة التخلص منها كليًا، والاكتفاء بما في الذات من أفكار أو ما في “العالم الكبير” أي الطبيعة من قوانين وحقائق.

مع ديكارت، حدثت ثورة إبستمولوجية كبرى، حولت مركز المعرفة من الموروث الديني واللاهوتي إلى أفكار العقل الذاتي وفق نموذج اليقين الرياضي. ولم يهتم ديكارت كثيرًا بالتقليد الديني والسكولاستيكي، بينما كان الفيلسوف الألماني كانط قد بلور بصفة دقيقة المسلك الحداثي في معالجة الموضوع الديني من خلال فكرتين أساسيتين هما: إخراج الموضوع الأخلاقي والقانوني من مرجعية القداسة الدينية وضبطه من منظور العقل الكوني وحده، وترجمة المضامين القيمية في الدين إلى لغة العقل العمومي.

وفق هذا النموذج، تشكل الذات الحرة العقلانية المحدد الأوحد في مسارات المعرفة والممارسة، بما يعني أن التقليد لم يعد محور الحقيقة وإنما هو عبء على العقل البرهاني الذي أصبح العلم التجريبي مثاله المرجعي.

وكما لاحظ ليو شتراوس، نتجت النزعة التاريخانية عن هذا التصور الذاتي الذي فسح المجال أمام ثنائية التقدم والنسبية، التي تعني الفصل الجذري بين الغايات والوسائل الصورية، واستبدال العدالة المطلقة بالشرعية القانونية الإجرائية، وتحويل السياسية إلى نمط التسيير الاقتصادي بدلًا من وظيفتها الأخلاقية السامية. ودون الخوض في تفصيلات نظرية شتراوس في الحداثة، نكتفي بالإشارة إلى أنه نبه بصفة ثاقبة إلى أن نبذ التقليد يعني في الحقيقة الخروج من أفق الفلسفة السياسية ومن الفكر الأخلاقي، لكون المسائل السياسية والقيمية الكبرى لا يمكن طرحها خارج السياق الإشكالي لعلاقة النص المقدس بالعقل والعدالة بالقانون والمدينة بالمؤسسة الدينية.

المفارقة الكبرى هي أن فكرة الذات السيادية الحرة ألغت عمليًا إمكانات التفكير المستقل، ما دامت تنطلق من تصور مثالي مستحيل للفاعلية الفكرية ضمن حدود الذات المعزولة خارج سياقات التقليد الذي هو شرط التداخل والتفاعل بين الذوات الحرة. ولذلك تهكم جان ليك ماريون على ذاتية ديكارت بالقول إنها تتأرجح بين حضور “الشيطان المخادع” و”الإله الضامن”، بمعنى أن الذات لا يمكن أن تكون معزولة مستقلة في نشاطها الفكري.

إن مصدر الإشكال في هذا التصور يرجع إلى مفهوم الحرية نفسه الذي انتقل إلى الحداثة من المعجم اللاهوتي حسب ما بينت حنة آرندت، موضحة أن مقولة الحرية من حيث ربطها بإرادة الوعي المطلقة لا يمكن أن تفضي إلا إلى جدار العجز المطلق، بالنظر إلى البون اللامحدود بين الشعور الداخلي بالاختيار غير المقيد وإمكانات الفعل الحقيقية المحدودة. ذاك ما يظهر في مفهوم “السيادة” الذي هو محور الفكر السياسي الحديث، وهو يعني إلغاء الحرية الفردية كليًا لصالح الحرية المطلقة للدولة.

وإذا كان التقليد قد رفض في الغالب من حيث كونه تقييدًا وتحكمًا في الإرادة الذاتية الحرة (فكرة التنوير بصفته الخروج من حالة القصور التي تفرضها السلطة الدينية والاجتماعية حسب تعريف كانط)، إلا أن الفكر الحداثي سعى في نهاية المطاف إلى استبدال الأيديولوجيا بالموروث الديني والثقافي والتي هي منظومة من الأفكار والشعارات المصاغة في قوالب اعتقادية جماعية.

ومع أزمة الأيديولوجيات الحداثية، بدأت حركية إعادة الاعتبار للتقليد في الفلسفات التأويلية المعاصرة، بما وصل أوجه مع هرمنوطيقا غادامير التي انطلقت من ثلاثية التقليد والسلطة والحكم المسبق، منبهة إلى أن المرجعية الموروثة لا تعني بالضرورة الإكراه والتقييد، فلا أحد يمكنه التفكير خارج قواعد ومعايير سياقه بالانطلاق دومًا من مصادرات موجهة ومسلمات تخضع للنقاش والتداول.

إن أهمية أطروحة غدامير -في ما وراء أبعادها الفلسفية الذاتية- تكمن في معالجتها لموضوع التقليد خارج الأطروحة التاريخانية-الوضعية التي تفترض حصر الحقيقة في المنهج العلمي التجريبي أو في مسار التحول الزمني.

من هذا المنظور، يتضح أن الفاعلية الفكرية تقتضي الاندماج في سياق تأويلي، عبر نص مرجعي، لا يمكن اختزال دلالاته في سياق تاريخي منفصل عنا. فالنص كما يقول بول ريكور له استقلاليته المزدوجة تجاه لحظة تشكله وتجاه لحظة تأويله، بما يجعله دومًا سابقًا علينا ومعاصرًا لنا في الوقت نفسه، إنه محمل بمعانٍ وغايات ليست محصورة في الماضي بل من بينها آفاق وإمكانات مستقبلية مطروحة للتحقق والاختبار.

إن فكرة التأويل تفترض أن عملية التفكير تتم دومًا من خلال الإسهام في نقاش سابق علينا، نقتحمه بعد أن بدأ من قبلنا، ولذا لا يمكن البناء المنعزل على حقائق وأفكار ذاتية مغلقة في الوعي الفردي.

لقد تزامنت هذه الثورة التأويلية في الفلسفة مع تحول إبستمولوجي ومنهجي هائل في الكتابة التاريخية، بالخروج من “التاريخ الحدثي” السريع، والوقوف عند السلاسل الزمنية الطويلة البطيئة، التي تغطيها أوهام القطيعة والانفصال.

ذلك ما نجده في مدرسة الحوليات الفرنسية وخصوصًا لدى رائدها الكبير فرناتد بروديل، ولدى المدرسة البنيوية في الأنثروبولوجيا التي ركزت على الثوابت الهيكلية التي تقوم عليها الأنساق والنظم الاجتماعية، كما نجده واضحًا في تاريخ الأفكار لدى عدد من الباحثين الذين نبهوا إلى مظاهر الامتداد والتداخل في الظواهر الثقافية والاجتماعية الكبرى مثل استمرارية القانون الروماني وبنياته اللاهوتية المتأخرة في التقاليد السياسية الغربية الراهنة (كما هو مبثوث في أعمال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن).

ما نخلص إليه في نهاية المطاف هو أن الفكر العربي المعاصر مطالب بالخروج من التصور القطائعي للتقليد الذي تعبر عنه مقولة التراث، لا للدفاع عن الماضي في كل صيغه وأشكاله، لكن لفتح المجال أمام منهج تأويلي جديد هو الشرط الموضوعي لعملية الإبداع والتجديد.