الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المأزق السياسي للصهيونية وخيار الدولة الديمقراطية الواحدة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

كنت قد كتبت سابقًا عن المؤرخ والعالم السياسي الإسرائيلي البارز شلومو صاند، الذي نقد بطريقة علمية دقيقة الأوهام والأساطير التي تقوم عليها الصهيونية وفي مقدمتها مقولة “الشعب اليهودي” التي تتأسس عليها هوية الدولة القائمة.

وقد آثرت العودة لصاند بمناسبة صدور كتابه الجديد “شعبان لدولة واحدة؟ إعادة قراءة الصهيونية”. يصدر المؤلف كتابه باستشهاد من تامير برادو الرئيس السابق للموساد يقول فيه إن إسرائيل أصبحت -بالفعل- دولة تمييز عنصري، مستنتجًا من هذا القول إن سياسة الاستيطان، والضم والاحتلال في المناطق الفلسطينية أفضت إلى وأد خيار الدولتين المنفصلتين، بحيث لم يعد من الممكن قيام دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة، ومن ثم فالخيار الوحيد مستقبلًا هو الدفاع عن مشروع الدولة الديمقراطية مزدوجة البناء القومي.

في هذا السياق، يرجع صاند إلى أسطورة “الشعب-الأمة” الذي عاش عصر التيه مطولًا، قبل أن يعود إلى وطنه، مبينًا أن جذورها الأصلية معادية لليهود، ولم يتبنها الجيل الأول من الصهاينة. بل إن بناة الدولة الإسرائيلية بما فيهم بن غوريون كانوا يعتقدون أن السكان العرب المحليين من الفلسطينيين هم ورثة اليهود الأصليين، ولم يؤسسوا مشروعهم السياسي على أساطير تاريخية بل على اعتبارات قومية واستراتيجية محضة. ولذا؛ ندرك أن المؤسسة الدينية اليهودية رفضت مشروع الدولة، ورأت أن الرجوع المقدس الموعود حالة روحية مرتبطة بالمسيح المنتظر ولا يمكن أن يتحقق بالوسائل السياسية الدنيوية.

وهكذا يرى صاند أن الصهيونية نجحت في بناء هوية قومية لشعوب لا شيء يربط بينها، ووضعت مؤسسات عسكرية ومدنية لدولة قوية، بحسب معايير النزعة القومية العرقية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين. ولقد كانت النتيجة الطبيعية لهذه النزعة إقصاء العرب الفلسطينيين من دائرة المواطنة، بيد أن الإشكال أصبح حادًا بعد حرب 1967 التي فرضت على صانعي القرار في إسرائيل حسم خيار التعامل مع سكان المناطق المحتلة.

لقد غدا السؤال المطروح هو: هل يكون الحل هو قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل كما هو المسلك القانوني الدولي، أم اعتماد خيار الدولة الواحدة المتعددة البناء القومي؟

ومن الواضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية التي طرحت في البداية مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية الموحدة، سارت منذ إعلان الاستقلال سنة 1988 في اتجاه مشروع الدولة الوطنية الفلسطينية. لقد فتح هذا الخيار طريق التفاوض والتسوية السلمية عبر مسار مدريد-أوسلو. بيد أن التطورات الميدانية أثبتت أن إسرائيل غير مستعدة للانسحاب من الأراضي المحتلة وقبول دولة فلسطينية ولو على مساحة هزيلة لا تزيد على 22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية.

ولقد تزامن انهيار مشروع التسوية السلمية في فلسطين مع نهاية نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا (1994)، بما عزز الأمل في بناء نموذج قائم على المساواة والديمقراطية في المناطق المماثلة من العالم، بما تحقق عمليًا في أيرلندا الشمالية سنة 1998.

وفي نهاية التسعينيات، عبرت شخصيات فلسطينية مرموقة مثل الشاعر محمود درويش والمفكر إدوارد سعيد عن شكوكها في نجاعة فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، باعتبار أن أقصى ما اقترحته إسرائيل على الفلسطينيين هو بناء كانتونات معزولة على شكل غيتوهات السود في حقبة الفصل العنصري. ومن هنا اعتبرت هذه الشخصيات أن المسلك الوحيد الواقعي هو تعميم المساواة في الحقوق على سكان الإقليم المشترك، بما يعني القضاء المبرم على المشروع القومي الصهيوني الأصلي.

في خاتمة كتابه، يبلور صاند معايير ومحددات “البراديغم الثنائي القومي” القائم على مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية التي تتجاوز الخصوصيات القومية المتصادمة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.

لقد تبنى العديد من المثقفين والسياسيين من الإسرائيليين والفلسطينيين هذه المقاربة، انسياقًا مع حقيقة انسداد آفاق الفصل بين الكيانين المتلاحمين، نتيجة سياسات الاستيطان والتهويد المتواصلة، وفشل تجربة السلطة الفلسطينية على الأرض.

يرى صاند، أنه على عكس وضع الإنجليز في الهند والفرنسيين في الجزائر، والأستراليين البيض في جنوب إفريقيا، لا يمكن للإسرائيليين أن ينفصلوا عمليًا عن السكان المحليين. فأكثر من 21 بالمئة من العرب يعيشون داخل حدود إسرائيل المعترف بها دوليًا، وأكثر من ثلث سكان عاصمة الدولة من العرب. صحيح أن إسرائيل طبقت في السابق إجراءات التهجير القسري والتطهير العرقي، إلا أن لهذه السياسة حدودًا لا يمكن تجاوزها نتيجة لانعكاساتها الإقليمية والدولية الخطيرة. ومن هنا، يبدو الخيار الوحيد الممكن حسب المؤلف هو العودة إلى فكرة الدولة الواحدة ذات البنية القومية المزدوجة التي طرحتها في السابق شخصيات يهودية وإسرائيلية وفلسطينية مرموقة.

كتب صاند كتابه قبيل حرب غزة الأخيرة، وإن كان صدر في شهورها الأولى، وقد أعلن أنه بدا في عمله متشائمًا، لكنه أيقن أمام حدة العدوان الإسرائيلي أن المشروع الجنوني الساعي إلى استكمال التهجير القسري للفلسطينيين قد شرع اليمين المتطرف الحاكم في تطبيقه، وإن كان فشل في هذا المسعى فشلًا ذريعًا، بما يحتم عليه قبول الخيار الوحيد العملي الذي هو المساواة الديمقراطية والمواطنة المزدوجة في أرض فلسطين الكبرى.

كتاب صاند مهم ودقيق، ويستند إلى وثائق كثيرة، ويبين بوضوح الآفاق المسدودة للمشروع الصهيوني الذي وإن استطاع بناء الدولة “العبرية” بدعم دولي واسع، كما نجح في استمالة قطاع واسع من الشعوب اليهودية في العالم، إلا أنه أخفق في معالجة الموضوع الفلسطيني. لقد فشلت الأطروحتان اللتان قدمتهما المؤسسة الصهيونية وهما: ديناميكية التطهير العرقي والتهجير القسري لضم الأرض دون السكان التي تبناها اليمين الإسرائيلي، وفكرة الدولة الفلسطينية المحدودة منزوعة السيادة التي طرحها اليسار الإسرائيلي وإن وضع شتى العراقيل لنجاحها.

في مواجهة هذا الإخفاق المزدوج، أصبح الشعار المطروح راهنًا هو تفكيك نظام الأبارتايد والفصل العنصري في فلسطين، بما يقتضي العودة إلى خيار الدولة الديمقراطية الموحدة الذي هو الأفق الواقعي والعادل لحل المعضلة الفلسطينية حسب صاند.

ما ورد في المقال من أفكار تمثل آراء وأفكار المؤلف ولا تمثل بالضرورة مواقف المنظمة