الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المسألة اليهودية في الفكر الغربي (2)
حنة أرندت والفكرة الصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لا أحد ينكر أن الفيلسوفة الألمانية الأمريكية “حنة أرندت” المنحدرة من أصول يهودية هي من أهم فلاسفة القرن العشرين ومن أكثرهم تأثيرًا في الفكر السياسي.
عاصرت حنة أرندت أوج المحرقة النازية وانضمت إلى الدوائر الصهيونية في الثلاثينيات وشاركت في إنقاذ مئات اللاجئين اليهود الأوربيين، قبل أن ترحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية حتى آخر حياتها (نهاية 1975). وقد ترددت حنة أرندت مرات عديدة على إسرائيل منذ نشأتها، وخصصت نصوصًا كثيرة للمسألة اليهودية جمعت في كتاب ضخم بعنوان “الكتابات اليهودية”.
ولا شك في أن أشهر ما كتبت أرندت في الموضوع هو الجزء الأول من كتابها حول “أصول التوليتارية” الذي خصصته لنزعة العداء للسامية، وتحقيقاتها حول محاكمة الضابط النازي الألماني أدولف أيخمان في إسرائيل التي جمعت في كتابها “أيخمان في القدس”.

في الكتاب الأول، تتعرض حنة أرندت لجذور نزعة العداء للسامية التي تختلف حسب اعتقادها عن العداء الديني القديم لليهودية، فتعتبر أنها نتاج الحداثة الأوروبية وعرض من أعراضها ظهر في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر.

ما تذهب إليه حنة أرندت هو أن نزعة العداء للسامية كانت خلاصة ما سمته “مفارقة انعتاق المجموعات اليهودية”، وهي الظاهرة الناشئة عن الحداثة الليبرالية وقيام الدول القومية، بما انعكس في تعميم رابطة المواطنة على اليهود وفي الآن نفسه نزع الامتيازات الخصوصية التي كانوا يتمتعون بها بما عرضهم للتمييز والقمع.

ولقد تعاملت البورجوازيات اليهودية الأوروبية مع هذا الواقع، فساهمت ماليًا وإداريًا في بناء الدول القومية، لكنها سعت في الآن نفسه إلى كبح حركة الاستيعاب اليهودي داخل النسيج القومي للدول الجديدة، بما انعكس حسب رأيها في الحلف الموضوعي بين الصهيونية ونزعة العداء للسامية.

وفي هذا السياق، ترجع أرندت إلى نصوص رواد الفكر الصهيوني الأوائل وفي مقدمتهم تيودور هرتزل وحاييم وايزمان للتدليل على هذا التحالف الموضوعي بين العنصريين النازيين والصهاينة في فكرة عزل اليهود عن مجتمعاتهم الأوروبية وجمعهم في غيتو واسع ولو على شكل دولة قومية.

ما تبينه حنة أرندت هو أن الفكرة الصهيونية قامت في جذورها النظرية والأيديولوجية على نفس المرتكزات التي قامت عليها التيارات الشوفينية الأوروبية التي كانت هي سبب المأساة اليهودية.
تستشهد أرندت يقول هرتزل “إن الأمة هي مجموعة من الأفراد الذين يجمعهم عدو مشترك”، مستنتجة أن هذا التصور يرجع إلى النزعة القومية الألمانية التي ترى أن الأمة جسم عضوي أزلي لها خصائص ثابتة تتجاوز التاريخ، بما يتعارض مع التصور السياسي الحديث للكيانات الوطنية.

السؤال المطروح بقوة على الفكرة الصهيونية يغدو عندئذ: كيف يمكن تحرير “الشعوب اليهودية” في سياق الحركة الإمبريالية الأوروبية في الشرق الأوسط بعد أن فشل المشروع في الإطار القومي الأوروبي؟

تجيب أرندت أن بناء الدولة اليهودية في مثل هذا السياق يفرض عليها أن تكون دولة مستبدة ظالمة، لأنها عاجزة عن التوافق في حدوده الأدنى مع المكون العربي الحاضر على الأرض وإن كان مقصيًا من مشروع الدولة. ومن هنا، فإن الفخ الذي سقطت فيه الدولة، هو أنها بدلًا من أن تكون حضن السلام والأمن لليهود، تحولت بالضرورة إلى دولة حرب مستمرة بما يعرض دومًا سكانها للخطر الثابت.

ومع أن أغلب نصوص أرندت في الموضوع تعود إلى الأربعينيات، إلا أنها أدركت أن قيام دولة إسرائيل لا يمكن أن يتم إلا من خلال مأساة أخرى لشعب لا دخل له في المحرقة اليهودية، ولذا فإن “المسألة العربية تظل هي السؤال المخفي في السياسة الصهيونية” حسب عبارة الفيلسوفة.

ولعل أهم نقد توجهه حنة أرندت للأيديولوجيا الصهيونية هو كونها تؤدي في المدى الطويل إلى تقويض الصورة الأخلاقية والإنسانية للشخصية اليهودية عبر إغلاق الهوية اليهودية في سياج الدولة القومية الكليانية المحتلة التي هي في نهاية المطاف حالة انتحارية بطيئة.

ولقد طرحت حنة أرندت على الإسرائيليين خيار الدولة الديمقراطية مزدوجة البناء القومي بدلًا من الدولة اليهودية الاستيطانية التي لا يمكن أن تقوم إلا بالعنف والتسلط العنصري.

كتب الكثير حول حنة أرندت، واتهمت بمعاداة السامية وهي اليهودية التي تحمست في شبابها للصهيونية وهربت من النازية الألمانية، بل إن كتبها لم تترجم للعبرية إلا في السنوات الأخيرة.

ولعل أكثر مفهوم أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الإسرائيلية هو مقولتها الشهيرة “تفاهة الشر”  (Banality of evil)،
التي وردت في كتابها “أيخمان في القدس”، وتعني بها كيف يمكن أن يتحول الشر في أسوأ أنواعه إلى حالة اعتيادية مثل أي وظيفة إدارية أو تقنية في دولة توتاليترالية مستبدة، كما هو حال الدولة الألمانية النازية.

لقد قيل إن الفيلسوفة خففت من الشحنة الأخلاقية للمحرقة اليهودية التي اعتبرتها وضعية طبيعية في مسار تاريخي مختل، لكنها دافعت عن تصورها بالقول إن ما تقصده هو أن النظم الاستبدادية التسلطية تحول البشر إلى أدوات للقمع والقتل دون وعي أو ضمير.

بل إن بعض الدراسات الأخيرة ذهبت إلى حد تفسير مواقفها النقدية للصهيونية بعلاقتها العاطفية والفكرية المعروفة بأستاذها الشهير “مارتن هايدغر” المتهم بالولاء للنازية، رغم أن رسائلهما المشتركة التي نشرت في السنوات الأخيرة لا تسمح بهذا الاستنتاج المتسرع.

كل ما في الأمر أن حنة أرندت ظلت وفية لقيم الحداثة الكونية والمعرفة والعدالة، وقد اعتبرت أن حل المسألة اليهودية لا يكون إلا بحمل هذه القيم واستيعابها، بدلًا من البحث عن التحرر من خلال النموذج التسلطي العنصري الذي هو أصل المأساة اليهودية المعاصرة. كما أنها أدركت بوعي ثاقب أن حل المسألة اليهودية لا يمكن أن يكون على حساب الشعب الفلسطيني وحقوق العرب، فكانت سباقة في طرح خيار التعايش السلمي بين العرب واليهود الذي يتطلب الخروج من منطق الاستعمار والاحتلال والتهجير القسري، والاعتراف بحقوق سكان الأرض. وإلا، يكون الخيار الوحيد هو الغيتو الواسع المغلق في شكل دولة محاربة معتدية ومستبدة.