الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المسألة اليهودية في الفكر الغربي (5)
أدغار مورين: الصهيونية وإسرائيل
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

تعرفت قبل سنوات على الفيلسوف الفرنسي من أصل يهودي أدغار مورين وقد بلغ مئة سنة من العمر في إحدى الندوات الفكرية في غرناطة بإسبانيا. ما يزال الفيلسوف العجوز في قمة نشاطه الفكري، وقد قرأت له مؤخرًا تعليقًا هامًا على أحداث غزة الراهنة، ذهب فيها إلى أنها النتيجة الطبيعية للصلف الإسرائيلي والنزعة العنصرية المسيطرة على حكام تل أبيب من اليمين المتطرف والصهيونية الدينية المتشددة.

ومع أن مورين لا يخفي أصوله اليهودية، إلا أنه تعرض لملاحقات قانونية من المنظمات الموالية لإسرائيل وحكم عليه بالإدانة في مناسبات سابقة نتيجة بعض النصوص التي كتبها ضد نزعة العداء للسامية.
ولا شك في أن كتابه “العالم الحديث والمسألة اليهودية” الصادر سنة 2006، يشكل أهم إسهام له حول الصهيونية والحالة الإسرائيلية.

في هذا الكتاب الذي أثار جدلًا واسعًا، يتتبع مورين باطلاع تاريخي وعلمي واسع خط الانتقال من الكراهية اللاهوتية لليهود التي طبعت العصور الوسطى في أوروبا لأسباب دينية (اتهام اليهود بقتل المسيح) إلى نزعة العداء للسامية في الحقبة الحديثة والمعاصرة.

يبين مورين أن عزل اليهود كليًا أصبح شاملًا في كل أوروبا خلال العصور الوسطى باستثناء منطقة الأندلس في العصر الإسلامي، وهكذا تناسقت سياسة إقصاء اليهود من تحريم الاختلاط، والزواج بهم والتبادل الثقافي والتجاري معهم مع العقيدة اليهودية نفسها القائمة على الاصطفاء والرؤية السلبية للأغيار، بما مكن من حفظ الهوية اليهودية رغم مصاعب ومخاطر الاندماج في المجتمعات الأوروبية.

بعد مأساة طرد اليهود من الأندلس إثر حركة الاسترداد الصليبي، عاش اليهود محنًا قاسية، لم تخف إلا مع حركة الإصلاح الديني التي عرفتها بعض البلدان الأوروبية، فانتقل اليهود ما بين الموانئ التجارية المفتوحة حاملين ثقافتهم المتأثرة بالحضارة العربية الإسلامية.
وهكذا انتقلت أوروبا من الكراهية الدينية لليهود إلى النظرة القدحية للشخصية اليهودية التي نعتت بالجشع، والاستغلال، وعدم الإخلاص للأوطان والدول الوطنية.
لم تكن نزعة العداء للسامية إذن موجهة بمرجعية دينية لاهوتية، بل كانت صادرة عن نزعة قومية عنصرية، وقد واجهتها النخبة المثقفة اليهودية منذ سبينوزا إلى ماركس من منطلقات إنسانية كونية.
وعندما ظهرت الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر بمشروعها لتأسيس “دولة اليهود”، كانت نتاج النزعة القومية الأوروبية، ولذا حاربتها الوجوه الفكرية اليهودية الكبرى لكونها لا تؤدي إلى حل “المسألة اليهودية”، بل تفضي إلى تفاقمها من خلال التصور العرقي اللاهوتي للهوية الذي واجهه المفكرون اليهود الأوربيون طيلة ثلاثة قرون كاملة.

مع سبعينيات القرن الماضي وما واكبها من انحسار المنظومات الفلسفية الكونية التنويرية، عادت النزعة الخصوصية اليهودية وغدت مسيطرة على وجوه فكرية بارزة من داخل إسرائيل وخارجها، بما انجر عنه تعريض اليهود للكراهية نتيجة لسياسات إسرائيل الاستعمارية وعدوانها المتكرر على العرب.

في هذا السياق، يرى مورين أن اليهود الذين تشبثوا بالفكرة الإنسانية الكونية وواجهوا من خلالها المحرقة الفظيعة التي أدت إلى إبادة الملايين منهم، هم المعنيون الأساسيون قبل غيرهم بالوقوف ضد جرائم إسرائيل تجاه الفلسطينيين الذين يتعرضون لنفس سياسات الإبادة، والكراهية والعنف.

كتب أدغار مورين في نص مشترك مع آخرين في صحيفة “لموند” الفرنسية (4 حزيران/يونيو 2002) “إن سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين هي الخطر الأكبر الذي يواجه اليهود مستقبلًا، فانتصار اليوم هو الانتحار غدًا. والمأزق هنا راجع إلى أن إسرائيل تستغل المظلومية اليهودية لتبرير قمع الشعب الفلسطيني، وتفرد المحرقة اليهودية (التي لا تزيد فظاعة عن جرائم مماثلة تعرض لها ضحايا الغولاغ، والسود المستعبدون والهنود الحمر المبادون ) لتشريع نظام الاستعمار، والفصل العنصري والإغلاق الذي أقامته إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة.

لقد قامت الصهيونية على أسطورة “شعب بلا أرض في أرض بلا شعب”، فكان الشعب الفلسطيني هو ضحية هذه الأسطورة، وكان “حق الدولة اليهودية” نفيًا للحقوق الوطنية للفلسطينيين.

وبدلًا من أن ينظر إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم كتعويض عن جرائم الطرد والتهجير، اعتبر هذا الحق خطرًا على هوية الدولة الإسرائيلية التي تقوم في الآن نفسه على “حق عودة” الجاليات اليهودية التي ليس لها ارتباط أصلي بأرض فلسطين.

وحين ينظر إلى عمليات الفصائل الفلسطينية بكونها إرهابًا يستهدف المدنيين العزل، يصرف النظر عن استهداف إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين الذي زاد بنسبة خمس عشرة أو عشرين مرة من حيث عدد الضحايا على ما يسمى بـ” الإرهاب الفلسطيني”.

ويخلص مورين إلى أنه من المثير حقًا أن نرى أمة من البشر الذين تعرضوا لقرون طويلة من الاضطهاد والظلم تمارس نفس السلوك العدواني ضد شعب أعزل لا مسؤولية له في مأساة اليهود التي جرت في الساحة الأوروبية. فلا فرق بالنسبة لمورين بين سياسات الاحتلال الفرنسي في الجزائر والواقع الفلسطيني اليوم الذي هو حالة فظيعة من الاحتلال الاستيطاني.

الحل الذي يقترحه مورين هو الخروج من منطق الهوية الدينية و القومية الذي سجنت فيه إسرائيل نفسها، فغدت في عزلة عميقة داخل محيطها الشرق أوسطي. وفضلًا عن كون العرب ساميين مثل اليهود وكون اليهود العرب يمثلون على الأقل أربعين بالمئة من سكان إسرائيل، فإن بداية الحل هي إنهاء الاحتلال ومنح الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني بما يتطلب القطيعة مع أوهام الصهيونية التي كرست راهنًا مخاطر العودة لكراهية اليهود والعداء للسامية، على عكس ادعاء المشروع الصهيوني الأصلي الذي تأسس على تحرير اليهود من القمع والإقصاء.

لقد تعرض الفيلسوف العجوز لحملات هجومية شرسة من لدن اللوبي الصهيوني الفرنسي وصلت حد نعته باليهودي “الكاره لنفسه” و”المعادي للسامية”. كل ما أراد أن يقوله مورين هو أن نقد الفكرة الصهيونية، والوقوف ضد الاحتلال الإسرائيلي ومساندة الشعب الفلسطيني، أمور لا علاقة لها بكراهية اليهود والعداء للسامية.

لقد نجح الغرب في تصدير مأساة المحرقة الفظيعة التي تمت في العمق الأوروبي إلى العالم العربي الإسلامي الذي شكل اليهود تاريخيًا مكونًا قويًا من مكونات نسيجه البشري والحضاري، والمسؤولية الأخلاقية تقتضي اليوم الوقوف بقوة ضد محرقة فلسطينية على يد ضحايا الأمس.