الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المسألة اليهودية في الفكر الغربي(8)
شلومو صاند والنقد التاريخي للصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

شلومو صاند مؤرخ إسرائيلي وأستاذ في جامعة تل أبيب، ينتمي إلى ما يسمى بمدرسة “المؤرخين الإسرائيليين الجدد” وإلى تيار “ما بعد الصهيونية”.

صدرت له ثلاثة أعمال أساسية هي: “كيف اخترع الشعب اليهودي؟”، و “كيف اخترعت أرض إسرائيل؟” و “كيف لم أعد يهوديًا؟”، وسيصدر له قريبًا كتاب بعنوان “شعبان، دولة واحدة؟ إعادة قراءة الصهيونية”.

الخيط الناظم لكتابات صاند هو تفكيك الأساطير المؤسسة للفكرة الصهيونية التي قامت عليها دولة إسرائيل، بما تمثل أساسًا في الحفر التاريخي في تشكل مفهوم الهوية القومية اليهودية بديلًا عن الانتماء الديني، وتشكل أرض إسرائيل من خلال التوظيف الزائف للتراث الديني اليهودي.

في كتاب “كيف اخترع الشعب اليهودي؟”، يفكك صاند أسطورة الأمة اليهودية ذات الأصول القومية الواحدة، التي طردت من أرض فلسطين بعد التحطيم الأول والثاني للهيكل وشتتت بعد السيطرة الرومانية، ومن ثم شرعية رجوعها إلى “وطنها” الأصلي الذي هو دولة إسرائيل الحالية.

بالرجوع إلى الدراسات الأركيولوجية والتاريخية الجديدة، يبين صاند أن الوثائق الحفرية تنفي كليًا وجود تيه مجموعات واسعة من اليهود في الصحراء بعد الخروج من مصر، كما تنفي مطلقًا وجود مملكة يهودية كبرى في فلسطين، إذ لم تكن مملكة سليمان وداود سوى دولة ضئيلة الامتداد الجغرافي ومحدودة السلطة. وليس من الصحيح أن سكان الدولة اليهودية تعرضوا للتهجير القسري في القرن السادس قبل الميلاد، بل انتقلت النخب السياسية والعلمية وحدها إلى بابل واحتكت بالثقافة الفارسية التي أثرت بقوة على تصوراتها الدينية.

أما الطرد الروماني لليهود، فليس سوى أسطورة كاذبة لا يوجد عليها أي دليل تاريخي. فباستثناء أسرى الحرب الذين تم استرقاقهم، ظل سكان فلسطين على أرضهم، اعتنق بعضهم المسيحية، واختار أكثرهم الإسلام، وهم حاليًا أساس الشعب الفلسطيني.

والحال أن أكثر يهود العالم اليوم يتكونون من أصول قومية شتى، وقد اعتنقوا الديانة اليهودية التي كانت أول ديانة دعوية تبشيرية في التاريخ. ففي الشرق الأوسط (كردستان، واليمن والجزيرة العربية)، ظهرت دول يهودية تدعو إلى نشر الديانة، وامتد هذا الانتشار إلى المنطقة الفاصلة بين البحر الأسود وبحر قزوين حيث المجموعات اليهودية في شرق أوروبا التي هي أساس المكون اليهودي الغربي وقد خرجت من آسيا بعد الغزو المغولي في القرن الثالث عشر.

ويخلص صاند إلى أن هذه المقاربة القومية العرقية للأمة اليهودية نشأت مع الأيديولوجيا الصهيونية، ولئن كانت مكنّت من بناء شعب قومي لدولة وطنية، إلا أن هذه الأساطير ذاتها ستفضي في نهاية المطاف إلى نسف هذا المشروع القومي المبني على خلفيات ميثولوجية واهية.

في كتابه ” كيف اخترعت أرض إسرائيل؟”، يبين صاند أن الشرعية الدينية للحالة الإسرائيلية هي مجرد اختلاق صهيوني حديث. النصوص التوراتية لا تتحدث عن أرض إسرائيل، بل عن أرض الميعاد أو بلاد كنعان وهي عبارات غائمة غير محددة جغرافيًا، كما أن القدس لم تكن تعني الكثير لليهود على عكس المسيحيين الذين كانوا يحجون إليها كثيرًا.

والحقيقة أن فكرة “أرض إسرائيل” هي من اختراع الصهيونية المسيحية التي ظهرت في بريطانيا في العصر الفيكتوري، عندما كانت إنجلترا تسيطر على طريق الهند وقناة السويس. ومن ثم فإن الزعامات السياسية البريطانية (من دزرائيلي إلى بلفور ولويد جورج) هي التي طرحت فكرة أرض إسرائيل كوطن لليهود، قبل أن تتبنى المؤسسة الصهيونية لاحقًا هذا المشروع ببعض التردد ،كما يظهر في كتاب هرتزل “دولة اليهود” الذي ظل متأرجحًا فيه بين الأرجنتين وفلسطين مقرًا للدولة المنشودة. وقد طرحت الحكومة البريطانية على السلطان العثماني هذا المشروع الذي لم ينبع أصلًا من المجموعات اليهودية.

والمعروف أن المؤسسة الحاخامية اليهودية رفضت بشدة ترجمة أرض الميعاد بالمفهوم الإقليمي لأرض إسرائيل واعتبرت هذه الترجمة تدنيسًا لعقيدة دينية مقدسة.
ومن هنا يمكن القول إن مقولة “أرض إسرائيل” هي مجرد أسطورة ليست لها أي خلفيات دينية حقيقية، بل هي من اختراع الهندسة الاستعمارية البريطانية وإن تبنتها لاحقًا الأيديولوجيا الصهيونية.

في كتابه “كيف لم أعد يهوديًا؟”، يفكك صاند بعمق وصراحة أطروحة “الهوية اليهودية” لدولة إسرائيل التي أصبحت مقننة دستوريًا منذ سنة 2008. في هذا السياق، يرى أن هذه الدولة التي تدعي العلمانية والديمقراطية لا تعترف إلا بالانتماء الديني واتخذته محورًا لهوية الأفراد، بما يعني إقصاء خمس السكان من العرب المسيحيين والمسلمين، والأشخاص الذين ليس لهم انتماء ديني وإن كانوا مواطنين إسرائيليين.

في هذا السياق، يبين صاند أن إسرائيل بنيت على عقيدة “المحرقة” التي أصبحت ديانة حقيقية لها طقوسها، وهي تعني تحويل جرح عميق من الماضي إلى محدد جوهري للهوية، بحيث يكون أصل الكيان السياسي القائم هو مأساة نفسية يجري تثبيتها من خلال الذاكرة الحية، ويتم تبرير الجرائم المنتهكة ضد الآخرين (الفلسطينيين) باسمها.
ومن هنا يصرح صاند أنه لم يعد يهوديًا، بمعنى الانتماء القومي المزيف، وإن كان مواطنًا من دولة قائمة هي إسرائيل.

في كتابه الذي يصدر هذه الأيام بعنوان “شعبان، دولة واحدة”، يعتبر أن حل الدولتين الذي تبنته المجموعة الدولية لم يعد خيارًا ممكنًا في الواقع، نتيجة سياسات الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي والتهويد المستمر في المناطق المحتلة. وما يجري حاليًا في فلسطين هو قيام نظام للفصل العنصري لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل، ولذا فإن الحل الممكن الوحيد مستقبلًا هو إنشاء دولة واحدة لشعبين على أن تكون بالفعل دولة ديمقراطية تقوم على المساواة الشاملة بين سكانها. إن هذا الحل هو بالضرورة نسف للأيديولوجيا الصهيونية، لكنه يحرر فعلًا الشعوب اليهودية من أوهام القوة والتميز والانغلاق.

تلك هي أهم أفكار وأطروحات المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند الذي واجه موجة عاتية من الهجوم والنقد من لدن التيار اليميني المتشدد والأحزاب الصهيونية الدينية، لكنه أصبح صوتًا مسموع الكلمة وظاهر الحجة في الدوائر الفكرية والأكاديمية.