الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

النزعات الشعبوية: السياق والتوجهات الراهنة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

سجلت الأحزاب الشعبوية انتصارًا ساحقًا في الانتخابات الأوروبية المنظمة في 9 حزيران/يونيو، مشكلة نقطة تحول كبرى في المسار السياسي والأيديولوجي لبلدان الاتحاد الأوروبي.
لا يتعلق الأمر فقط باليمين المتطرف الذي تغيرت جذريًا قاعدته الانتخابية ولم تعد محصورة في الطبقات الدينية المحافظة، بل توسعت إلى الفئات العمالية والطبقات الوسطى، إذ نلمس -في الوقت نفسه- تصاعدًا جليًا لليسار الشعبوي الذي له حضور قوي في عدة بلدان أوروبية مثل اليونان وإسبانيا وفرنسا، بالإضافة إلى دول أمريكا اللاتينية.

في كتابه المتميز الصادر بعنوان “عصر الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد”، يعالج المفكر السياسي وعالم الاجتماع بيار روزنفالون هذه الظاهرة في أبعادها المختلفة.

في هذا الكتاب؛ يحدد المؤلف الحالة الشعبوية من خلال خمسة محددات رئيسة هي: التصور القائم للشعب، والمقاربة المعتمدة للديمقراطية، والموقف من آلية التمثيل الانتخابي، والفلسفة الاقتصادية ونمط توظيف الأهواء والمشاعر الحيوية.

من حيث تصور الشعب، تركز النزعات الشعبوية على التمييز الصارم بين “هم” و”نحن” من منظور أولوية السيادة الوطنية على القيم والأفكار الليبرالية. ومن هنا لا يتضح المفهوم المرجعي للشعب، الذي يتأرجح بين النظر إلى الشعب من حيث هو جسم مدني موحد، أو من حيث هو كتلة اجتماعية تختزل في فئة ضيقة محدودة من المجتمع.

في هذا التأرجح تتم التضحية بالمنظور التعددي المتنوع للمجتمع في بنيته الطبقية المركبة. في كل النزعات الشعبوية ميل جلي لرفض تعددية النظام الاجتماعي من منطلق البحث عن هوية جماعية متجانسة لها إرادة واحدة مشتركة. في مثل هذا الفكر، ينظر إلى الآخر بصفته عدوًا أو خصمًا، لا مكان له في العالم المشترك للمواطنة. ومن هنا؛ ندرك الهجوم الذي توجهه الأحزاب الشعبوية ضد النخب باعتبارها لا تعيش واقع الوطن الفعلي، كما أنها تتهم بالفساد، والاستعلاء والتدبير التكنوقراطي للفعل السياسي، شأنها شأن الأجانب الذين هم مصدر كل مآسي البلاد من أزمة اقتصادية، وضياع هوية وانعدام الأمن العام.

ما يبينه روزنفالون هو أن الشعب في مفهومه المتجانس الأحادي وهم متخيل، وإن كان يطمس ثنائية الجسم المدني والكيان الاجتماعي لأغراض تعبوية آنية.

أما من حيث النظرية الديمقراطية، فتتعين الإشارة هنا إلى أن النزعات الشعبوية تتفق في رفض الديمقراطية التمثيلية الليبرالية، بما تعنيه من فصل بين السلطات وتكريس لسيادة الإنسان واستقلاليته. ومن هنا؛ تتميز الرؤية الشعبوية للديمقراطية بثلاث سمات هي: تفضيل الديمقراطية المباشرة القائمة أساسًا على آلية الاستفتاء الشعبي، والدفاع عن مشروع الديمقراطية الاستقطابية الرافضة للمؤسسات الدستورية والتنظيمية غير المنتخبة، واعتماد تصور مباشر وعفوي للتعبير الشعبي.
وقد انعكس هذا التصور للديمقراطية على آلية التمثيل الشعبي التي أصبحت تتمحور حول “الإنسان- الشعب” في مقابل تحكم النخب والفئات العليا من المجتمع. ومن هنا؛ الموقف السلبي من الأحزاب السياسية بصفتها منظومات محترفة تخضع لصراع النفوذ بين مجموعات متضاربة وتفضيل نموذج الحركات المرنة والعفوية القادرة على جذب قاعدة شعبية عريضة. في مثل هذه الحركات، يتم تمجيد الزعيم القائد القادر على التعبير عن الروح الشعبي الموحد.

ومن حيث البناء الاقتصادي، تعتمد مختلف النزعات الشعبوية فلسفة تقوم على “المسلك القومي الحمائي”، في مقابل حركة التبادل العالمي الحر التي هي مرتكز المنظومة الاقتصادية الحديثة. وهكذا نفهم المقاربة المناوئة للعولمة والدعوة إلى السيادة الاقتصادية وحماية المنتج الوطني، واستخدام شعار العدالة والمساواة من أجل تكريس عقلية الانكفاء على الهوية الخصوصية، وإحالة كل أصناف الغبن والتفاوت إلى أسباب وخلفيات خارجية، وربطها بمقتضيات الأمن القومي وتحصين الحدود مع البلدان الأجنبية.

في هذا السياق السياسي والاجتماعي الجديد، يعاد الاعتبار للأهواء والمشاعر الحية بدلًا من التصور السلبي لها في الفلسفات الليبرالية الحديثة من منظور العقلانية التنويرية النقدية. في هذا السياق الجديد، تراجعت فيه التقدم الفكري والاجتماعي وطغت الذاتية الفردية المنكفئة على نفسها، وهيمنت الأحاسيس المعيشة من حيث هي أنماط من المواقف النفسية إزاء التطورات والتحولات السريعة التي تكرسها التقنيات التفاعلية الراهنة. أغلب هذه المشاعر تتركز حول ضياع الهوية وانحسار آفاق الاندماج الاجتماعي وتهديد الآخر، بما يتناسب مع الأفكار الشعبوية المتصاعدة.

لا شك في أن أطروحة بيار روزنفالون تقدم لنا أدوات دقيقة لفهم الواقع السياسي للمجتمعات الديمقراطية الغربية التي تعيش منذ سنوات انفصامًا مزدوجًا بين الآلية الانتخابية التمثيلية، والمنظومة القيمية والحقوقية الليبرالية، وبين السيادة الشعبية في حدود البناء الوطني الضيق والسيادة المتقاسمة الكونية التي هي الأفق الجديد للفعل السياسي في البلدان المندمجة في حركية العولمة الاقتصادية والتقنية.

الانفصام الأول هو الذي أفضى إلى ما أطلق عليه المفكر السياسي الأمريكي فريد زكريا عبارة “الديمقراطيات غير الليبرالية”، وهي الأنظمة التي تتحكم فيها قيادات شعبوية تحافظ على شكليات وآليات الانتخاب والتمثيل وإن كانت تنتهك القيم الليبرالية وفي مقدمتها دولة القانون، والفصل بين السلطات ومؤسسات المجال العمومي.

أما الانفصام الثاني، فيبدو في عجز المنظومات القانونية والمدنية للدول الليبرالية الحديثة عن تمديد قيم الديمقراطية التعددية الحرة إلى البناءات الإقليمية والنظم الكسمبولوتية التي قلصت إلى حد بعيد معايير السيادة الوطنية التي تتشبث بها التيارات الشعبوية.

السؤال الذي لا بد من طرحه هنا هو هل تشكل الديناميكية الشعبوية تطورًا طبيعيًا في التجربة الديمقراطية الغربية بالتأقلم مع الواقع السياسي الجديد الذي انحسرت فيه الأيديولوجيات، وتراجعت الأحزاب وانتهت ثنائية اليمين واليسار التقليدية التي أطرت لمدة قرنين الحياة السياسية، أم أنها تشكل انتكاسة خطيرة عن المكتسبات الحداثية والتنويرية من عقلانية نقدية وذاتية حرة ونزوع إنساني كوني؟

الإجابة على هذا السؤال المحوري تقتضي التمييز في ما وراء السمات المشتركة بين التيارات الشعبوية بين اليمين القومي المحافظ و اليسار الراديكالي، وإن اشتركا في نفس الرؤية للديمقراطية وعملية التمثيل الانتخابي.
وذلك هو موضوع المقالة القادمة.