الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

برنار هنري ليفي والمسألة اليهودية وإسرائيل
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

برنار هنري ليفي فيلسوف فرنسي من أصول يهودية جزائرية، ذائع الصيت في الإعلام السيار، كثر الحديث عنه خلال الأزمات الدولية الكبرى، وبصفة خاصة حرب الإطاحة بالعقيد القذافي في ليبيا التي كان من الوجوه المؤثرة فيها.

بيد أن الشهرة الكبرى لليفي تكمن أساسًا في دعمه القوي لإسرائيل إلى حد الدفاع عن أكثر سياساتها عدوانية وتطرفًا، بما ظهر في إطلالاته التلفزية المتكررة بعد أحداث غزة الأخيرة التي انحاز فيها كليًا لحرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

المثير في الأمر، أن ليفي يستند في مواقفه المنحازة للاحتلال والتمييز العنصري لقيم ومعايير حقوق الإنسان من منطلق قراءة أخلاقية وتاريخية للهوية اليهودية أثارت جدلًا واسعًا في صفوف المتخصصين. في هذا السياق، نشير إلى حواره مع المفكر والإعلامي اليهودي الفرنسي المعروف جان دانيال الذي اعتبر أن أفكار ليفي تصدر عن تصور جوهراني جامد وغير تاريخي للشخصية اليهودية، لا يختلف في شيء عن المقاربة العدائية للسامية التي تنطلق من مصادرة سلبية قبلية للهوية اليهودية

نشر ليفي سنة 2016 كتابًا مثيرًا بعنوان “عبقرية اليهودية” أراده على غرار كتاب السياسي والأديب الفرنسي شاتوبريان “عبقرية المسيحية” الصادر سنة 1802.

في كتابه المذكور، ينطلق ليفي من مقاربة الفيلسوف الأشهر إمانويل لفيناس في قراءته الأخلاقية للتراث اليهودي التي ذهب فيها إلى أن اليهودية هي أساسًا نزعة أخلاقية كونية ترتكز على الغيرية والمسؤولية تجاه الآخر وليست ديانة بالمعنى المألوف للعبارة.

لكن ليفي ذهب بعيدًا في هذه المقاربة، إذ نفى أن تكون الديمقراطية الحرة نشأت في أثينا بل في أورشليم اليهودية، بل إنه رأى أن الفلسفة اليونانية لا مكان فيها للأخلاق بل هي نزعة وجودية مغلقة.

وبطبيعة الأمر، لا يمكن لأي مؤرخ أفكار أن يوافق ليفي على هذه المصادرة الزائفة. فلقد بينت الدراسات الدقيقة العلاقة التلازمية بين الفلسفة من حيث هي خطاب برهاني وميدان التداول العمومي المفتوح الذي هو جوهر الديمقراطية،كما بينت أثر أنسنة المعتقدات الجماعية على نمط السلطة التدبيرية للسكان (جان بيار فرنان وفرانسوا شاتليه، وغيرهما).

ودون التهوين من فلسفة لفيناس الأخلاقية، لا يمكن إغفال طغيان اللاهوت السياسي في التقليد اليهودي القديم، بما أوضح الفيلسوف الهولندي الشهير سبينوزا الذي اعتبره ليفي “خائنًا” لأصوله اليهودية.

يقدم ليفي نفسه بأنه “يهودي معلن” رغم أنه يتنصل من المرجعية الدينية لليهودية (وتلك مفارقة غريبة باعتبار أن اليهودية هي في حقيقتها ديانة قبل أي شيء)، ويعني هذا الانتماء الانخراط في هوية مجموعاتية متضامنة، بما يضمن له في آن واحد الالتزام بالهوية الأخلاقية الكونية دون الحاجة إلى التنكر لمعايير المواطنة القومية والخروج من ضيق الاعتبارات الدينية والطقوسية.

ومن هنا ندرك خلفية موقفه من الصهيونية التي يعتبرها نزعة إنسانية علمانية أسست “أول ديمقراطية في الشرق الأوسط”. الصهيونية من هذا المنظور هي التعبير السياسي والأيديولوجي الحديث عن اليهودية، وكل رفض لها يشكل نمطًا من العداء للسامية.

ولا بد هنا من إبراز حقائق ثلاث في مقاربة ليفي :

  • أولًا: إن الصهيونية من حيث هي أيديولوجيا قومية متشددة لا يمكن إرجاعها إلى أي نوع من التراث العقلاني أو الإنساني اليهودي ولو من منظور لفيناس الذي هو في حقيقته فيلسوف معاصر يذهب في اتجاه الاحتفاء بالغيرية والاختلاف والمسؤولية ولو بتوظيف تأويلي خاص به للنصوص اليهودية رفضته بشدة المؤسسة الحاخامية والتيار الأرثوذكسي المسيطر على الحقل الديني في إسرائيل. فمن المعروف أن الصهيونية تتغذى فكريًا وأيديولوجيًا من التيارات القومية الأوروبية التي كانت الشعوب اليهودية نفسها من ضحاياها وهي التي ولدت النزعة العدائية للسامية.
  • ثانيًا: إن الانتماء الديني أو الفلسفي للهوية اليهودية لا ينتج عنه ضرورة الوقوف مع إسرائيل التي هي حالة استيطان استعماري وعنصري يشكل في العمق تهديدًا خطيرًا للوجود اليهودي. ذلك ما أدركه العديد من الوجوه الفكرية والسياسية اليهودية الكبرى من داخل إسرائيل وخارجها، وقد وقفنا في هذه الصفحة عند نماذج بارزة منها. ولقد كان حريًا بالرجل الذي رفع شعار حقوق الإنسان في مواقفه الملتزمة الصاخبة على الساحة الدولية أن يقف مع حقوق الشعب الفلسطيني المضطهد والمحتل لا أن يدعم سياسات الاحتلال، والإبادة والتهجير القسري باسم التضامن العشائري الأعمى كما اتهمه الكثير من الكتاب والسياسيين من بلاده فرنسا وخارجها.
  • ثالثًا: لا بد من التمييز المنهجي والاصطلاحي بين ثلاثة مفاهيم متمايزة هي اليهودية، والصهيونية والنزعة الإنسانية الكونية. فاليهودية هي بطبيعة الأمر اعتقاد ديني وممارسة شعائرية ومنظومة جماعية، أما الصهيونية فهي نمط من الصياغة الأيديولوجية للهوية الدينية الجماعية اليهودية وليس لها حصانة دينية من أي نوع، في حين أن النزعة الإنسانية الكونية هي نتاج قيم التنوير والحداثة وبالتالي هي النقيض المعياري والتصوري للصهيونية من حيث هي فكرة أيديولوجية متعصبة ومغلقة.

في تعليقاته الأخيرة المتكررة على أحداث غزة الراهنة، ذهب ليفي إلى أن إسرائيل هي الطرف المعتدى عليه وأن الجيش فيها يتميز بالأخلاق الإنسانية العليا ولا يمكن اتهامه بأي تجاوزات ضد السكان المدنيين. ولقد أحدثت تصريحاته الاستفزازية جدلًا واسعًا، إلى حد أن السفير الإسرائيلي السابق في باريس “نسيم الزفيلي” اعتبر أنه يشجع اليمين المتطرف الحاكم في تل أبيب ويدافع عن سياسة خرقاء لا يمكن لأحد تقبلها.

ليست الآراء العنصرية المتطرفة نشازًا في صفوف الصهاينة الإسرائيليين والغربيين، بيد أن الغريب أن تبرر جرائم الاحتلال والإبادة باسم الأخلاقية الدينية والقيم الحقوقية الإنسانية.

عندما أصدر ليفي سنة 1977 كتابه الأول “الهمجية بوجه إنساني” وتعرض فيها لما اعتبره انحياز فلاسفة الرغبة للنزعة الاستبدادية التسلطية، رد عليه الفيلسوف الكبير جيل دلوز بالقول إنه جرف الفلسفة إلى ندب الضحايا والعيش على الجثث في ما لا صلة له بالفلسفة في أبعادها التحليلية والبرهانية. لكن ليفي في هذا المنحى لم ينتبه إلى جثث الفلسطينيين وضحاياهم.