الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

دومنيك فيدال وحق نقد الصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

دومنيك فيدال مؤرخ وكاتب فرنسي من أصول يهودية، أصدر سلسلة من الأعمال المهمة حول الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، من بينها كتابات خصصها لمدرسة المؤرخين الإسرائيليين الجدد التي أبطلت السردية الرسمية الإسرائيلية حول حرب 1948 وظروف طرد وتهجير الفلسطينيين من بلادهم الأصلية.

من آخر ما أصدر فيدال كتابة المهم بالفرنسية الذي يحمل عنوان “معاداة الصهيونية = معاداة السامية؟”. وكما يظهر من العنوان، يتناول المؤلف في هذا الكتاب الاتجاه المتزايد في الحقل السياسي الغربي للنظر إلى نقد الصهيونية بصفته نوعًا من كراهية اليهود والعداء للسامية.

الكتاب في أصله ردة فعل على دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو للذكرى الخامسة والسبعين لحملة “فيلديف” التي استهدفت خلال العهد النازي آلاف اليهود الفرنسيين، بما يشكل إقحامًا غير مشروع لحاكم أجنبي في قضية وطنية محلية، مع العلم أنه يمثل الصهيونية المراجعة التي لها علاقات معروفة بالفاشية الإيطالية. وقد ذهب ماكرون في خطابه بالمناسبة إلى اعتبار معادة الصهيونية الوجه الجديد للعداء للسامية.

بالنسبة لفيدال، يتعلق الأمر هنا بخطأ تاريخي وخطأ سياسي. بالنسبة للجانب الأول، لا معنى للتدخل في مسألة تتعلق باليهود أنفسهم الذين لم يهاجر أغلبهم إلى فلسطين ولا إلى دولة إسرائيل بعد تأسيسها ولم يتبنوا المشروع الصهيوني في غالبيتهم، وبالنسبة للجانب الثاني، تتمثل خطورة قول ماكرون في تشجيعه خط اليمين المتطرف الحاكم راهنًا في تل أبيب.

ومع أن بعض الأصوات النافذة في فرنسا دعت إلى سن قانون لتجريم نقد الصهيونية، إلا أن الرئيس ماكرون خلص بعد استشارة كبار القانونيين إلى ترك هذا الخيار المستحيل عمليًا.

بالرجوع إلى تاريخ الصهيونية، يبين فيدال أن مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، لم يكن هو الهدف الأصلي لهذه النزعة الأيديولوجية، بل إن المشروع الصهيوني الأول المنعقد في آب/ أغسطس 1897 اكتفى بالنص على “إنشاء مأوى للشعب اليهودي في فلسطين يحظى بالاعتراف العمومي والضمان القانوني”.

لقد كان هرتزل مؤسس الفكرة الصهيونية من دعاة اندماج المجتمعات اليهودية في بلدانها، ولم يتحول إلى مشروع الكيان القومي اليهودي إلا نتيجة القمع الذي مس المجموعات اليهودية في روسيا، وانبثاق قضية درايفوس الشهيرة في فرنسا التي أججت مشاعر الكراهية ضد اليهود، وأوهنت حلم المواطنة المتساوية الذي كرسته الثورة الفرنسية.

ويبين فيدال أن مشروع هرتزل قام على مصادرات أربع هي: وجود الشعب اليهودي، واستحالة دمجه في المجتمعات التي يعيش فيها، وحقه في “أرض الميعاد”، وعدم وجود أي شعب في هذه الأرض الموعودة.

بيد أن هذه المصادرات على كثافتها الأيديولوجية هشة البناء العلمي، لكونها تقوم على تحويل اعتقاد ديني مشترك إلى هوية قومية، وتتجاهل واقع امتزاج وتداخل اليهود مع غيرهم في المجتمعات الأوروبية، وتستند إلى خلفيات دينية لا معنى لها بلغة الشرعية القانونية المعاصرة، وتتنكر لوجود الشعب الفلسطيني في أرضه.

وبالرجوع إلى الخلفيات التاريخية الخاصة بمشروع الوطن القومي لليهود كما بلورته سلطات الانتداب البريطاني، يبين فيدال أن هذا المشروع تنكر من جهة للتعهد الذي منحته السلطات الإنجليزية للشريف الحسين والملك بن سعود بدعم استقلال العرب، ومن جهة أخرى لاتفاقيات سايس بيكو الموقعة مع فرنسا والتي كانت تقضي بوضع فلسطين تحت سلطة دولية.

ومع أن الوكالة اليهودية قبلت في الظاهر قرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1947، إلا أنها عملت في الواقع على فرض مشروعها الخاص من خلال إنشاء كيان أوسع نطاقًا من المجال الذي حددته المنظمة الدولية، وإبادة وتهجير السكان العرب من أجل تكريس الأغلبية الديموغرافية اليهودية في الدولة الجديدة.

وهكذا تبدو العلاقة العضوية بين الصهيونية والاحتلال والتوسع القسري، إذ استطاعت إسرائيل بعد حرب 1948 توسيع مجالها الجغرافي بالثلث، وضاعفت هذه المساحة أربع مرات بعد حرب 1967. فبعد النكبة الأولى سنة 1948، حدثت النكبة الثانية وتم طرد 350 ألف فلسطيني إضافي ووصل عدد المستوطنين في المناطق المستعمرة 1967 ما يصل إلى 700 ألف فرد حسب صحيفة هآرتس.

ما بينه فيدال هو أن الحركة الصهيونية لم تكن أبدًا التيار السياسي اليهودي الوحيد، كما أنها عرفت من داخلها نقاشات جوهرية متصاعدة. كما أن غرضها لم يكن دومًا إنشاء كيان سياسي في فلسطين، بل إن بعض المناطق الأخرى رشحت لهذا الغرض مثل أوغندا والأرجنتين.

قبل الحرب العالمية الثانية كانت أغلبية اليهود في العالم ضد مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، سواء تعلق الأمر بالمؤسسة الحاخامية الرسمية أو باليسار اليهودي في روسيا وأوروبا الشرقية. لم يستقطب مشروع “الوطن اليهودي في فلسطين” اليهود الأوروبيين، إلا بعد مجازر الحرب العالمية الثانية التي لم تترك للكثير منهم خيارًا سوى الهجرة إلى الكيان الجديد، خصوصًا أمام تقلص اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت القبلة الأولى للمهاجرين من أوروبا.

ولا يتردد فيدال في القول إن المشروع الصهيوني دخل اليوم في “أزمة استراتيجية عميقة”. لقد أصبحت الدولة نفسها في خطر مع إمكانية ضم الضفة الغربية إثر صدور قانون 2017 الذي يفسح المجال أمام نبذ خيار الدولتين لصالح الدولة الواحدة المتنوعة قوميًا حيث لا يتمتع اليهود بأغلبية مطلقة دائمة. لقد أصبحت إسرائيل عرضة لانقسامات خطيرة بين اليهود والعرب، واليهود الشرقيين والغربيين، وبين اللائكيين والدينيين، وغيرهم.

وفق الأرقام الدولية المنشورة، أصبحت إسرائيل في ذيل الأمم من حيث مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن حيث مظاهر التفاوت الاجتماعي ونسبة الفقر.

المفارقة التي يخلص إليها فيدال هي أن إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة هو الضمانة الوحيدة لمستقبل إسرائيل، بما يتطلب إحداث تغيير نوعي في الأيديولوجيا الصهيونية، بل تجاوزها وفق الاتجاهات الراهنة التي تعتمد مقولة “ما بعد الصهيونية”.
وللحديث بقية.