الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

دومنيك فيدال وما بعد الصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عرضنا في المقال السابق تشخيص دومنيك فيدال الصارم لوضع المجتمع الإسرائيلي الراهن، الذي اعتبر أنه يعيش أزمة عميقة، في أفق مسدود. ومن هنا بروز دعوات متصاعدة في إسرائيل وفي أوساط النخب اليهودية للقطيعة مع الأيديولوجيا الصهيونية، وفق التيار الجديد الذي أطلق عليه “ما بعد الصهيونية”.

من أبرز مكونات هذا التيار مدرسة المؤرخين الإسرائيليين الجدد التي كنا توقفنا عندها سابقًا في هذه الصفحة، وكذلك “علماء الاجتماع الجدد” الذين وجهوا الاهتمام إلى ما يعيشه المجتمع الإسرائيلي الحالي من مظاهر التفاوت، والاستغلال والتمييز، بما يدفع ثمنه أساسًا الفلسطينيون من سكان الدولة والمناطق المحتلة، بالإضافة إلى اليهود الشرقيين والأرثوذكس التقليديين. بل إن هذا التوجه تمدد إلى حقل العلوم الإنسانية، والأدب، والسينما، والفلسفة والقانون والاقتصاد.

لقد عبر عن رؤية هذا التيار رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ بقوله “إن الصهيونية ماتت، وقد احتل قتلتها مقاعد الحكم في القدس. لم يفوتوا أي فرصة للقضاء على كل ما هو جميل في النهضة القومية”. ولقد أضاف بورغ في نفس المعنى “لقد صرنا على حافة نهاية المغامرة الصهيونية. أجل، لقد أصبح من المرجح أن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير. وبعده، ستبقى دولة يهودية مشوهة ومكروهة”.

ولقد ربط بورغ بين نهاية “الحلم الصهيوني” وواقع الاحتلال الذي يستهدف السكان الفلسطينيين، معتبرًا أن هذه المأساة الأخلاقية والقانونية ستقضي على المشروع بكامله. ويرى فيدال أن ما حذر منه بورغ قبل عشرين سنة أصبح واقعًا قائمًا، نتيجة تحكم اليمين المتطرف في مركز القرار، وتحالفه مع أكثر الاتجاهات تشددًا وانغلاقًا وعنصرية.

وفي الاتجاه نفسه، يحيل فيدال إلى المؤرخ الإسرائيلي البارز شلومو صاند في كتابه “كيف اخترع الشعب اليهودي؟”. في هذا الكتاب، يعترض صاند على فكرة عودة اليهود إلى فلسطين التي هي أسطورة تعود القرن التاسع عشر، وتقوم على وهم التهجير اليهودي في العصر الروماني وما تلاه من شتات من المؤمل أن ينتهي مع قانون “حق العودة” الذي أصدره البرلمان الإسرائيلي سنة 1950 في الوقت الذي رفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من بلادهم ما بين سنتي 1947 و1949.
ما يبينه صاند هو أن الرومان لم يسبق لهم أن طردوا شعبًا يحتلونه، والواقع أن جل يهود فلسطين تعاونوا مع السلطات الرومانية ولم يغادروا بلادهم، وأن كثيرًا من نسلهم اندمج في المجتمع المسيحي الإسلامي بينما تتشكل أغلبية يهود العالم من قوميات وأمم أخرى اعتنقت في مراحل تاريخية متعددة الديانة اليهودية.

وعندما سأل فيدال المؤرخ البارز شلومو صاند هل هو معاد للصهيونية، أجاب دون تردد أنه لا يشعر بأنه صهيوني، وما يهمه هو النقد الجذري للتاريخ الصهيوني.
ويستعرض فيدال من هذا المنظور ما بعد الصهيوني منظمة “ماتزبن” (البوصلة بالعبرية) الإسرائيلية التي تتبنى بوضوح وصراحة الخط المناوئ للصهيونية، وقد غدا لها تأثير هام في الوسط الثقافي والفكري.

في الميثاق التأسيسي للمنظمة الذي يعود إلى 1967، وردت الدعوة إلى إلغاء الطابع الصهيوني للدولة، بتحويلها من الوطن القومي ليهود العالم إلى دولة مواطنة متساوية، تمنح اللاجئين الفلسطينيين حق الرجوع وتلغي “قانون العودة” اليهودية.

في الفصل الثالث من كتاب فيدال، يقف المؤلف عند مسار الانتقال من نزعة العداء لليهودية التي كانت منتشرة على نطاق واسع في الأدبيات المسيحية الغربية إلى ظاهرة العداء للسامية التي هي نزعة معاصرة جديدة.

يحيل هنا فيدال إلى الاتهام القديم بضلوع “اليهود في دم المسيح” (رسائل القديس بولس)، الذي راجعه المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1965 حاصرًا هذه المسؤولية بالمجموعات اليهودية المعاصرة للمسيح. لقد شكلت هذه الخلفية اللاهوتية القديمة السبب الحقيقي لسياسات التمييز والإقصاء التي تعرض لها اليهود في المجتمعات الأوروبية طيلة قرون طويلة. لم تتغير هذه الصورة مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر التي اتسمت بعداء شديد لليهود، كما أن الوضع اليهودي ساء كثيرًا في روسيا القيصرية منذ نهاية القرن الثامن عشر. وفي المقابل، كان وضع اليهود أحسن في المجتمعات المسلمة في إطار مفهوم “أهل الذمة” مهما كان الموقف منه.

ومع أن بعض التيارات المناوئة للإسلام في الغرب تذهب إلى أن العداء للسامية يتركز اليوم في الأوساط المسلمة، إلا أن المعلومات الدقيقة الصادرة عن مراكز الرصد والاستشراف الموثوقة، تؤكد أن هذه النزعة تتركز في أوساط اليمين الأوروبي المتطرف.

بيد أن فيدال يرى أن الكثير من الحوادث الداخلة في نطاق العداء للسامية سببها الحقيقي هي سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف العدوانية واستهدافه للفلسطينيين، وانتهاكات حكومة تل أبيب المتكررة لحقوق الإنسان.

ومن هنا يستنتج المؤلف أن الراديكالية المتنامية في إسرائيل هي السبب الجوهري لكراهية الدولة العبرية. ففي فبراير/شباط 2017 أصدر الكنيست قانونًا يسمح بضم أراض في الضفة الغربية بما يلغي عمليًا خيار الدولتين المنفصلتين، في الوقت الذي أصبحت القدس عاصمة موحدة لإسرائيل خروجًا عن اعتبارات الشرعية الدولية. ومع تزايد الاستيطان اليهودي في المناطق المحتلة وصدور قانون “الدولة القومية اليهودية” سنة 2018، ليس من المستغرب أن تؤدي هذه الإجراءات العدوانية إلى عزلة إسرائيل وتنامي الموقف السلبي منها في الرأي العام العالمي.

ما يخلص إليه دومنيك فيدال هو ضرورة التمييز بين ثلاثة مواقف مختلفة: كراهية اليهود التي لها خلفياتها اللاهوتية الخاصة بالمجتمعات المسيحية الغربية الوسيطة، ومحاربة الصهيونية بصفتها أيديولوجيا عدوانية توسعية لها خصومها الكثر داخل إسرائيل وفي أوساط الشعوب اليهودية، والموقف السلبي من إسرائيل بصفتها دولة احتلال، واستيطان وتمييز عنصري. فإذا كانت كراهية اليهود دينًا وشعوبًا مدانة ومستقبحة، فإن الموقف النقدي من الصهيونية ومن الحالة الإسرائيلية الراهنة مسؤولية أخلاقية كبرى لا يجوز التنصل منها.