الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

سلسلة مدونات: أنا لاجئ في زمن الكورونا العزلة داخل العزل

مشاركة

أحمد قطليش

بدأت ألمانيا دعواتها للمواطنين بعزل أنفسهم طوعيةً مع بدايات شهر آذار/مارس الفائت إثر انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وذلك قبيل أن تسارع في تشديد الإجراءات وقرارات إيقاف الحياة العامة. كنت حينها قد بدأت حجرًا منزليًا إثر تواصلٍ سابق مع أحد المصابين. تزامنت عزلتي هذه مع الذكرى التاسعة لبداية الأحداث “الثورة” السورية وتبعاتها، ما أعاد لي ذكريات حظر الحركة، فالنزوح لعزلات متتالية من دمشق لجنوب سوريا فالأردن وصولًا لألمانيا.

خدعة الخبرة المسبقة

كنت أظن أن ما مررت به سابقًا شكل لي حماية ستجعل من فترة الحجر مجرد نقاهة، أما بالنسبة لأصدقائي الألمان غير القادرين على استيعاب هذه الحالة التي قد ترغمنا على الاعتكاف في أماكننا لأشهر عديدة، فكنت أحاول التهوين عليهم بما حدث في جنوب سوريا أثناء اختبائي لعدة أشهر تحت القصف. ذكرت قصص التأقلم مع الحالة مهما كانت شدتها وكيف أن المجتمع يتقبّل نمط الحياة الجديد سريعًا، حتى مع الموت وشح المؤونة، ليخترع أساليب بقاء ويسلي نفسه بأكثر الأمور مأساوية. حينها كان بعض سكان البلدات القريبة في الليل يبدأون الغناء لثوانٍ عديدة عندما يرون ضوء القذائف يظهر في السماء، إذ أن هذه الثواني هي ما تلزم للاختفاء في انتظار وصول هذه القذائف. في اليوم التالي، يُدفن من مات وتستمر الحياة.

هذه القصص كانت مطمئنة للأصدقاء، لكن ما أن دخلت الحجر الصحي الذاتي حتى اكتشفت أن هذه التجربة مختلفة تمامًا وقد تكون أصعب. ففي الحروب هناك صراع للبقاء حيث يُستغل الوقت في البحث عن وسائل للتدفئة ومؤونة وآليات أمان لاستمرارية الحياة، أما هنا فكل شيء متوفر، المكان الآمن والطعام والحاجيات الضرورية، مع تسهيل الإجراءات الحكومية لإيصال المساعدات لكافة فئات المجتمع.

الآن ليس هناك صراع للبقاء، بل مجرد انتظار ومحاولة حماية كبار السن. لكن كسوريّ مقيم هنا تقوم الدولة بتزويدي بكل المعلومات اللازمة عن الإصابات والإجراءات وجاهزية المؤسسات والنظام الصحي. تكاد هذه الأخبار تنعدم من سوريا، مع تعتيم على أعداد الإصابات في بلد منهك، بنظام صحيّ مصاب بعد تدمير العديد من مشافيه. أصبح هذا الوقت المديد ممزوجًا بالخوف لما قد يحدث في سوريا، هذا الخوف أكثر رعبًا من الحرب نفسها لأنّ الأخيرة أكثر وضوحًا، وبعد تسع سنين، أتقن الكثير من السوريين لعبة النجاة هناك.

هبة الوقت لا تعني جاهزية الإنجاز

على الرغم من أن هذه المرحلة قد تكون فرصة لإعادة صقل بعض الخبرات، أو تعلم اللغة لنا كلاجئين هنا، أو حتى العمل على مشاريع جديدة مع كل ما تقدمه المنصات العلمية والثقافية والابداعية من دورات مجانية، إلا أنّ هذا ليس بالأمر اليسير. لم يتغير أسلوب حياتي كثيرًا قبل العزل وبعده لأنني كنت أعمل من المنزل، إلا أن الجو العام وتسارع الأخبار والتغيرات على الواقع هنا وهناك -أعني سوريا- تجعل التركيز على بدء أشياء جديدة رفاهية لا نستطيعها أو لا نتقبلها. هناك الكثير من الإشكاليات التي كان يحاول السوريون حلها، كأوراق الإقامة ولم الشمل ومعاملات اللجوء، كلها توقفت الآن. وفي حين يرى البعض أن هذا التوقف لن يؤثر على قضاياهم، إلا أنه ضربة جديدة تضاف إلى البيروقراطية التي كانوا يواجهونها قبل الفايروس. مشاريع صغيرة أغلقت، ودراسات ألغيت، وفرص التقاء مع الأهل أصبحت بعيدة المنال.

وفي حديث مع أحد الأصدقاء الصحفيين هنا، والذي كان نادرًا ما يخرج من بيته، قال أن لا شيء تغيّر، إلا أنه الآن لا يستطيع العمل أو الإنجاز.

هناك حالة من الإحباط جثمت على كل محاولات النجاة من الماضي ومحاولة البداية والبناء مجددًا.

الآن سيفهمون لماذا لا نندمج على طريقتهم!

سعاد -اسم مستعار- تعيش في ألمانيا منذ أربع سنوات، ولأنها كانت حاملًا في عامها الأول هنا، أصبحت حياتها مرهونة بطفلتها، فأخذ ذلك كل وقتها. تقول سعاد أنها الآن تشعر بالشفقة على الألمان لأنهم سيفهمون ما كانت تعانيه منذ أربع سنوات .ألا يتصل بك أحد، ولا يطرق بابك أحد، وألا تجدي أي رقم عندما تطلب الروضة منك رقم شخص آخر وعنوانه لأخذ الطفلة في حال عدم توفرك. أن لا تعرفي اللغة ولا المكان ويُطلب منك أن تكوني شاكرة حامدة ومندمجة فَرحة. سيفهم الناس الآن كيف تؤثر هذه العزلة على طريقة حياتهم وقدرتهم على متابعة الحياة أو العمل. وكيف تسلب طاقة الحياة منهم.

في سنوات اللجوء الأولى، كانت ولا تزال هناك مخصصات مالية لبرامج دمج اللاجئين ومساعدتهم على الاختلاط بالمجتمع، والكثير من تلك المشاريع كانت تركز على أشياء لا تقترب من أصل المشكلة بل تحاول الإضاءة على قصص نجاح أو أسواق ومهرجانات طبخ وما إلى ذلك. قد يساعد هذا الوباء على فهم الإشكالات العميقة لمحاولة العمل على الاندماج فيما بعد. أو على الأقل، قد يكسر حواجز التواصل دون أحكام مسبقة مبنية على ما يبثه الإعلام، بل نابعة من تجارب شخصية للعزلة داخل المجتمع نفسه.

تنمّر داخلي

الآثار النفسية لهذه العزلة لا تزال غير معروفة لأن العالم لم يشهد جائحة كهذه منذ عدة أجيال، وعلى الرغم من أن اللاجئين هنا يستطيعون الحصول على ما يحفظ وجودهم، إلا أن هذه الموجة الجديدة تضاف إلى إشكالات سابقة لم تعالَج قبلًا. وعندما لجأ سعيد -اسم مستعار-لمنصات اللاجئين الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي سائلًا عن مساعدة نفسية لمواجهة هذا الحجر، هاجمه الكثير من اللاجئين، متذرعين بما يمر به المعتقلون في سوريا أو اللاجئون في مخيمات اللجوء في الشمال السوري، أو العالقون بين الحدود الدولية. وكأن على التفكير في مصائب إخوتنا من اللاجئين أن يمنع وقوعنا في أي عارض نفسي!

البحث عن العزل

لا يتمتع الكثير من اللاجئين السوريين برفاهية العزل، ففي مآوي اللاجئين السورية المنتشرة في أنحاء ألمانيا، حيث الحمّامات والمطابخ مشتركة، وكل غرفة قد تحوي 4 نزلاء، لا يمكن نقل كبار العمر فيها إلى دور العجزة بسبب القوانين الجديدة لتلك الدور بعدم استقبال أي شخص لمنع وصول الفيروس إليها.

تخالف الإجراءات المتبعة في مآوي اللاجئين القواعد التي وضعتها الولايات لمكافحة الفيروس. وقد وصل هذا الأخير إلى العديد من اللاجئين، ففي أويسكيرشن غرب ألمانيا، وضع سكان المأوى كلهم في الحجر لوجود إصابات هناك.

يزداد الأمر صعوبة بالنسبة لطالبي اللجوء الذين ما زالوا دون أية أوراق ثبوتية، حيث تحاول منظمات مدافعة عن حقوق اللاجئين المطالبة بتمكين فحصهم، ومقاضاة الولايات حول أوضاع المآوي، ما سيسهل من وضع اللاجئين بغرف منفصلة في الفنادق التي أغلقت بسبب توقف السياحة.

عندما صرحت ميركل أنّ 70% من الألمان قد يصابون بالفايروس، قال لاجئون على منصات التواصل الاجتماعي “الحمد لله، لسنا ألمان”. روح الدعابة هي بداية محاولات النجاة من هذه العزلة الجديدة من نوعها. ومع النجاة أظهر اللاجئون اندماجًا حقيقيًا مع المجتمع الألماني من خلال المبادرات العديدة لمساعدة الألمان، في الزراعة وخياطة الكمامات ومساعدة العجزة بل وحتى تمشية كلابهم، كمبادرة “قلوب فوبرتال البيضاء” ومبادرة محاربي فيروس كورونا في كولن، لتعطي هذه العزلة أملًا في أن ينتج عنها اندماج حقيقي لا إعلامي، بعد انتهاء الجائحة.