الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

طه حسين في بيته، بقلم د. علي أومليل، المفكر المغربي وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

كتبت السيدة سوزان طه حسين كتاباً عن حياتهما معاً بعنوان معك (Avec toi). أول ما تعرّف عليها كان ذلك في مدينة نابوليي في أيار/مايو 1915 وهو طالب مبعوث للدراسة هناك يبحث عن من يقرأ له مقرّرات الدراسة. كانت تقرأ له وما أكثر ما كان يقرأ! تقول: “إني ما زلت إلى الآن أستغرب كيف أنه في أقل من أربعة أعوام وهو المعوَّق والغريب عن الثقافة الغربية استطاع الحصول على الإجازة، ودبلوم الدراسات العليا والدكتوراه”.

كانت والدتها متحفظة حين قررت الزواج بالفتى المصري وهو أجنبي ومسلم وفوق هذا كله فهو ضرير! لكن هذا الفتى سيكون له شأن وأي شأن في مصر وخارجها. تقول: “إن شعوري لقوي بهذه الهبة التي أغدقت عليّ حين وجدتك في طريقي”.

أول ما يلفتنا هو البيت نفسه، فهو أوروبي الطراز مع التوفيق بين الهويتين المصرية والأوروبية. فأبناؤهما يحملان اسمين: فالابن اسمه مؤنس وكلود، والابنة أمينة ومارغريت. وسيتزوج الابن حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي.

لقد كان بيت طه حسين مزاراً لكبار الكتاب والفنانين الأجانب وبخاصة الفرنسيين منهم. كانت في مصر قبل ثورة الجيش جالية أجنبية كبيرة لغة أغلبية نخبتها هي الفرنسية. فكان يزور طه حسين في بيته أعلام كبار أمثال أندريه جيد الذي راجع مذكرات طه حسين الأيام وقدم الترجمة إلى أكبر دور النشر الفرنسية (ݣاليمار)، وجان كوكتو، وإيتيامبل، وسنغور، وجاك بيرك وبلاشير وغيرهم.

لقد كان لزوجته أفضال كبيرة عليه. يقول مؤنس ابن طه حسين. لقد علمت زوجها الضرير “كيف يعقد ربطة العنق، وكيف يجلس على مائدة الطعام وأشياء أخرى. واكتشف أيضاً بفضلها باخ، وموزارت، وبيتهوفن، وبرامز، وشوبان، وشومان وشوبير”.

وكما تآلف الشرق والغرب في بيت طه حسين فقد سعى إلى تآلف حضارتيهما. فقد نشر في أواسط الثلاثينيات كتابه مستقبل الثقافة في مصر والذي اعتبر محيط مصر الطبيعي هو حضارة المتوسط التي دشنها اليونان الذين ابتكروا الديمقراطية، والفلسفة والعلم بمعناه الدقيق. كما أصدر مجلة الكاتب المصري لنشر وترجمة نصوص من الفكر الغربي.

وتنشط سوزان طه حسين مع نساء أجنبيات زوجات لشخصيات مصرية في الدفاع عن المرأة المصرية. كانت صديقة لرائدة الحركة النسائية هدى شعراوي التي أصدرت مجلة بالفرنسية L’Egyptienne، وقادت مظاهرة لنزع الحجاب. كما شاركت سوزان في تأسيس متحف لرائد فن النحت في مصر محمود مختار.

كانت الفرنسية هي اللغة الأجنبية الغالبة للنخبة المصرية. كان هذا قبل أن تطغى الإنجليزية في العالم لأسباب ثلاثة: الأول خروج أمريكا إلى العالم بعد الحرب العالمية الثانية قائدة للغرب. والثاني صعود دول آسيوية كقوة اقتصادية إلى مضمار الاقتصاد العالمي مستعملة اللغة الإنجليزية في علاقاتها الدولية. الثالث أن اقتصاد الخدمات تصدّر الاقتصاد العالمي، ولغة هذا الاقتصاد هي الإنجليزية خاصة مع الثورة الرقمية.

لقد عمل طه حسين كثيراً من أجل اللغة الفرنسية وثقافتها. وهو إنما كان يردّ الجميل لأفضالها عليه. وقد كان لشخصيات فرنسية دور كبير في مصر، فهم مثلاً أسسوا المتحف المصري، وأول مدرسة للطب وأخرى للحقوق. وإعجاب طه حسين بفرنسا وثقافتها ذهب به إلى حد نعته الحملة الفرنسية التي قادها نابليون لغزو مصر بـ “الحملة المباركة”!

تستعرض سوزان طه حسين فترات الشدة التي مرّ بها زوجها. أولاها تلك التي أحدثها نشر كتابه في الشعر الجاهلي والذي صرح بأنه سيطبق المنهج الديكارتي في درسه لشعراء الجاهلية. وهو يشك في صحة هذا الشعر. لكن الذي أثار عليه الزوبعة هو امتداد شكه إلى أحداث تاريخية وردت في القرآن، والذي ليس في رأيه وثيقة تاريخية. فلا يكفي مثلاً أن يرد اسم النبي إبراهيم في القرآن حتى نُسلّم بوجوده التاريخي. لقد استنطقت النيابة طه حسين في موضوع كتابه هذا وتقول زوجته إنه لزم الصمت فلم يجب على أسئلة النيابة. ثم طُوي الموضوع سنة 1926. ويبدو أن الانتماء الحزبي لطه حسين آنذاك قد أفاده، فقد كان منتمياً إلى حزب الأحرار الدستوريين خصم حزب الوفد آنذاك. وقيل إن زعيم حزب الوفد سعد زغلول، وعلى الرغم من أن طه حسين قد ناصب هذا الحزب وزعيمه العداء الحزبي، فإن موقف سعد كان عدم متابعة الكاتب. وتقول زوجته إنه كان آنذاك مهدداً بالقتل، وقد نصبت حراسة أمام منزله.

لقد أخذ معترضون على طه حسين أنه وبعد كتابه عن الشعر الجاهلي، كتب كتباً إسلامية مثل على هامش السيرة وأيضاً مرآة الإسلام تراجع فيهما عن موقفه العقلاني الديكارتي، فأصبح يسلّم بما انتقده في كتابه في الشعر الجاهلي.

وهنا لا بد وأن نبرز دلالة إسلاميات طه حسين. فهدفه والذي نتبينه من قراءة الصفحات الأولى من كتابه الفتنة الكبرى هو إبراز أن الإسلام لم ينص على نظام معين للحكم، فهو متروك لاختيار المسلمين. فالرسول لم يوصٍ بالحكم لأحد بعده، ولم ينص على نظام سياسي للمسلمين. فنظام المسلمين السياسي هو من اختيارهم، وهنا يقف طه حسين ضد نظامين للحكم كان لهما دعاة في عصره: الأول نظام الخلافة الذي دافع عنه هؤلاء بعد إنهاء أتاتورك نظام الخلافة. الثاني نظام الاستبداد، فقد اعتبر طه حسين أن الاستبداد غريب عن الإسلام، سواء في أصوله أو في سيرة الرعيل الأول من المسلمين. فالنظام الاستبدادي طارئ دخيل أدخلته عناصر غير عربية، وبالتحديد الفرس ثم الأتراك كالسلاجقة ومن بعدهم العثمانيون.

إن طه حسين الذي نشر إسلاميات في الثلاثينيات أيضاً وفي الفترة نفسها كتابه مستقبل الثقافة في مصر (1936). وقضيته التي دافع عنها في هذا الكتاب أن على مصر أن تعيد اندماجها في محيطها الحضاري الطبيعي، وهو حضارة البحر المتوسط التي أرسى دعائمها اليونان الذين ابتكروا الديمقراطية، والفكر الفلسفي والعقلانية العلمية. والإسلام الذي رجع إليه إنما هو إسلام القيم والأخلاقيات. وتبقى الطريق السالكة للكاتب المصري هي تحديث بلاده، وقد وضع لبنات سنعرض لها لهذا التحديث، وعلى رأسها بناء العقل المصري، وهو مشروعه التربوي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر.

لقد أنجز طه حسين إصلاحات ومشاريع لم ينجز مثلها غيره. فهذا الكاتب الفذ قد عارض فكرة الالتزام التي أطلقها جان بول سارتر وخاض فيها العديد من المثقفين العرب ابتداء من خمسينيات القرن الماضي. ونعتقد أن طه حسين هو أول من عرّف بنظرية سارتر في الالتزام وذلك في مقال نشره طه حسين في الخمسينيات بعنوان الأدب بين الاتصال والانفصال. وقد دخل في نقاش مع كاتبين مصريين ملتزمين هما محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس. وناقش في موضوع الالتزام كاتباً لبنانياً وهو رئيف خوري في ندوة عقدت ببيروت. لكن طه حسين الذي رفض التزام الأديب بغير إبداعه الأدبي التزم بإنجاز إصلاحات ومشاريع مهمة. فقد أسس جامعتين، جامعة عين شمس وجامعة الإسكندرية. وأنشأ معهد الدراسات العربية بمدريد، وأقرّ مجانية التعليم، وفتح أبواب الجامعة للطالبات بعد أن كان دخولها قاصراً على الطلبة الذكور. وحين توفي احتشدت حشود من الشباب حول سيارة أرملته حين خروج نعشه من بيته. فقالت سوزان طه حسين إن هؤلاء الشباب إنما يعبرون باحتشادهم حول نعش الفقيد الكبير عن عرفانهم بأفضاله عليهم. فلولاه لما كان بإمكانهم دخول المدارس التي فتحها أمامهم وهو الذي طالما قال إن التعليم ضروري ضرورة الماء والهواء!