الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

عزلة إسرائيل
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لم أكن أود الرجوع إلى برنار هنري ليفي الذي كتبت عنه من قبل في هذه الصفحة، رغم أنه لا يستحق كبير اهتمام. فالرجل الذي يدعي أنه فيلسوف لا ينظر إليه بجدية في الحقل الفلسفي الغربي، وقد سبق له أن تعرض لاتهامات خطيرة بسرقة الأفكار والمعلومات، بما فيها فضيحة الإحالة إلى كتاب وهميين.

ولقد رجعت إليه اليوم إثر صدور كتاب جديد له بعنوان “عزلة إسرائيل” يكرر فيها الآراء المثيرة التي عبر عنها بعد أحداث غزة، وهي في عمومها تدافع عن العدوان الإسرائيلي من منطلقات ثلاثة هي:
– قلب منطق الضحية بالنظر إلى إسرائيل باعتبارها الطرف المظلوم الذي يتعرض لعدوان هو الأشرس منذ مذابح الهولوكوست، بما يعني أنها تواجه تهديدًا وجوديًا حقيقيًا وليس مجرد حرب عابرة.
– الدفاع عن جرائم الجيش الإسرائيلي التي يعتبر أنها مجرد أضرار جانبية لقوات دفاع تتبنى الأخلاق والقانون وتحرص على حياة الناس، مهما كانت الآثار الفعلية على الأرض.
– القول إن إسرائيل تواجه اليوم عزلة دولية شاملة، تعيد أجواء العداء للسامية باسم نقد إسرائيل والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بما يعني أن نقد الصهيونية هو الوجه الجديد للعداء للسامية.

لا يهم ليفي ما حكمت به محكمة العدل الدولية من مؤشرات الإبادة الجماعية في غزة وما أكدته هيئة الأمم المتحدة من أنّ ما قُتل من آلاف الأطفال الفلسطينيين يفوق ما قتل من الأطفال في كل الحروب التي عرفها العالم في السنوات الأربع الأخيرة.

الفلسطيني هو دومًا المعتدي بالنسبة لليفي، الذي يشبه إسرائيل بأوكرانيا ويعتبر أنها تواجه عدوانًا مماثلًا للاعتداء الروسي، دون اعتبار عاملين أساسيين هما حالة الاستعمار الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية الذي يشكل التهجير القسري والتطهير العرقي أفقه النهائي على غرار مشروع الإبادة النازية الأصلي، ومرجعية القانون الدولي الإنساني الذي ينظم حالة الحرب والمواجهة العسكرية وفق مبدئين أساسيين لا يمكن الخروج عنهما وهما تجنيب المدنيين مخاطر العنف وتناسب ردود الفعل (في حال كانت الحرب شرعية) مع الضرر القائم.
ما لا يريد أن يفهمه ليفي هو أن عزلة إسرائيل التي أصبحت حقيقة موضوعية متأتية من حجم جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي وصلت مستوى غير مسبوق، لم يعد بالإمكان السكوت عليها.

لقد حدث تطوران هائلان في الوعي الإنساني العالمي هما:
– إدراك التغير النوعي الذي حصل في المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية من سردية حق إسرائيل في الوجود إلى سردية الفصل العنصري في فلسطين الذي أصبح حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها. وليست حرب غزة الدائرة حاليًا سوى مرحلة من مراحل فرض هذا النظام العنصري التمييزي بإفراغ القطاع من سكانه وتدمير كل إمكانات الحياة فيه.
– إدراك تحول الصهيونية الحاكمة في إسرائيل من نزعة قومية علمانية وحداثية (وإن كانت في أصولها وأهدافها عدوانية وعنصرية) إلى نزعة فاشستية متطرفة تقوم على تحالف المكونات الدينية المتشددة واليمين الراديكالي العنيف، بما يترتب عليه استحالة الدفاع عن التحالف الحاكم حاليًا في تل أبيب حتى في الأوساط الغربية الموالية تقليديًا لإسرائيل.

إن أكثر ما أقلق ليفي الذي يرى العداء للسامية في كل شيء (حتى في محاكمة الوزير الفرنسي الأسبق دومينيك دستروس خان المتهم بجريمة الاغتصاب والتحرش الجنسي)، هو أن عزلة إسرائيل تتركز اليوم في الدوائر الفكرية والحقوقية الأمريكية والأوروبية.
في هذا السياق، يركز ليفي على التيارات الفلسفية والاجتماعية الصاعدة في الجامعات الأمريكية والتي تتبنى مفاهيم “العصيان الإبستمولوجي” و”النقد الكولونيالي”، وما يسمى باليقظية Wokism معتبرًا أنها تتصدر اليوم نزعة العداء للسامية والصهيونية.

بالنسبة لليفي، كان اليسار الماركسي والعالم ثالثي هو محور العداء لإسرائيل سابقًا، وقد أفضت جهوده إلى تقنين تصنيف الصهيونية في المنتديات الدولية على أنها نزعة عنصرية. ومع انهيار اليسار التقليدي، تحول مركز العداء لإسرائيل وللصهيونية إلى التيارات التفكيكية وما بعد الحداثية التي تهيمن راهنًا على المدرجات الجامعية الغربية.

ليس هجوم ليفي على هذه التيارات جديدًا، فلقد كان سباقًا منذ نهاية الستينيات إلى التحامل على الفلسفات النقدية الفرنسية التي تبنت مفاهيم الاختلاف والمغايرة والتفكيك في النظر إلى المركزية الغربية (فوكو، ودلوز، ودريدا ولاكان…).

وبعد انتقاله المعلن إلى خط الدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب، من خلال الأفلام التوثيقية عن البوسنة، وأفغانستان، وليبيا وأوكرانيا وغيرها، حاول ليفي أن يبدو في ثوب المفكر الإنساني الأخلاقي، إلا أن الكثير من النقد وجه له من منظور ازدواجية المعايير في تعامله مع أزمات العالم ومآسيه، بما يبرز بوضوح في قضية الشعب الفلسطيني.

ما أثار حنق ليفي مؤخرًا هو أنه خسر المعركة الأخلاقية في المسألة الحقوقية إثر حرب غزة الأخيرة التي انحاز فيها للمعتدي. ومن هنا حول الصراع إلى مواجهة فلسفية مع الأفكار التفكيكية والنقدية الجذرية التي ربط بينها بصورة زائفة مع نزعة العداء للسامية.

ما لا بد من التنبيه إليه هنا هو أن هذه الأفكار ليست لها علاقة مباشرة بالمسألة الصهيونية، وإنما برزت في الأساس في إطار النقد الجذري للسردية الحداثية الكونية الغربية في نقطتين محوريتين هما:
– الادعاء الكوني للمرجعية الإبستمولوجية والمعيارية للنوع الإنساني، من خلال مفهوم الحداثة منظورًا إليه بصفة نقطة اكتمال تطور الإنسانية المعرفي والقيمي. من هذا المنظور، تكون صيرورة العقل الأوروبي من الإصلاح الديني والنهضة إلى التنوير والحداثة هي المضمون الفعلي للكونية الإنسانية ولا مخرج منها ولا سبيل لتجنبها.
– التعارض الجوهري بين القيم الإنسانية الكونية وأنماط السياسات والمواقف تجاه المجتمعات والأمم الأخرى، بحيث تعاصرت قيم التنوير مع ظواهر الاسترقاق، والعنصرية، والاستعمار والإبادة الجماعية، وشكلت هذه القيم المسوغات التبريرية لهذه المواقف العدائية ضد الآخر.

الصهيونية من هذا المنظور المزدوج هي من جهة أحد تجليات المركزية القومية الغربية من حيث الأفكار والممارسات، وهي من وجه آخر انتهاك فظيع لقيم ومعايير الحداثة الإنسانية والتنوير العقلي الكوني.