الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

غزو القدس.. هدف كولومبوس من اكتشاف أمريكا بقلم د. علي أومليل، المفكر المغربي وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

معلوم أن كولومبوس أبحر مغامراً ليصل إلى الهند من الغرب باختراق المحيط الأطلسي، وأن سفنه الثلاث حين رست على اليابسة لم يعلم أنه اكتشف قارة جديدة، القارة الأمريكية. لكن الذي ربما لا يعلمه الكثيرون هو الحافز الذي دفع كولومبوس إلى مغامرته البحرية: وهو جلب ثروة لغزو القدس!

هناك اقتران حدثين تاريخيين كبيرين: وهو أن السنة التي اكتشف فيها كولومبوس القارة الأمريكية سنة 1492، هي نفسها السنة التي سقطت فيها غرناطة آخر ممالك العرب والمسلمين بالأندلس. وكولومبوس أبرز اقتران هذين الحدثين. ففي رسالة وجهها إلى ملكيه الإسبانيين فيرناندو وإيزابيلا اللذين موّلا رحلته الاستكشافية كتب ما يلي: “في هذه السنة 1492، وبعد أن أنهيتما جلالتكما حربكما على المسلمين الذين يحكمون في أوروبا، والتي تُوّجت باقتحام مدينة غرناطة، ورفعكما في الثاني من يناير من ذلك العام رايتي جلالتكما بالحق والسلام فوق أسوار قصر الحمراء قلعة المدينة، شاهدتُ الملك العربي يغادر المدينة ويُقبّل أيادي جلالتكما. لقد نشرتما أيها الملكان المؤمنان العقيدة المسيحية ضداً على الأعداء أتباع دين محمد وعقيدة الشرك والضلال”.

كان كولومبوس إذن شاهداً على المشهد: وهو تسليم آخر ملوك مملكة غرناطة أبي عبد الله مفاتيح المدينة إلى الملكين الإسبانيين المنتصرين وهو يقبّل أياديهما ويسلمهما مفاتيح المدينة ويغادر الأندلس نهائيا ليعيش نكِرة في فاس.

إلا أن “استرداد” الأندلس من العرب والمسلمين ينبغي حسب كولومبوس أن يُتوج بـ”استرداد” آخر: القدس. فما سيجلبه من ثروة من “الهند” (= أمريكا) سوف يموّل به غزوته للقدس، وهذا ما يقوله: “إنني في الوقت الذي قمت فيه بسماعي [لدى ملكيْ إسبانيا] للذهاب لاكتشاف الهند، كانت نيتي أن ألتمس من مولاي الملك ومولاتي الملكة تخصيص ما سيأتيهما من غنائم من بلاد الهند لفتح القدس”.

وهو ما سيؤكده في رسالة إلى البابا في يناير 1502، أي عشر سنوات بعد اكتشافه أمريكا: “لقد كان هدف هذا المشروع هو إنفاق [ما سأغنمه] لإرجاع البيت المقدس إلى الكنيسة المقدسة. وبعد أن ذهبت إلى هناك ورأيت الأرض كتبتُ إلى مولاي ومولاتي الملك والملكة أنني وخلال سبع سنوات سأستطيع إعداد خمسين ألف راجل وخمسة آلاف فارس لغزو بيت المقدس، ومثل هذا العدد بعد خمس سنوات أخرى”. مشروعه إذن استعماري صليبي وحافزه الديني واضح. فقد ألّف كولومبوس كتابا حول النبوات، خاصة نبوءة النبي أشعيا الذي تنبأ حسب زعمه بأن “الرجل الذي سيعيد بناء الهيكل فوق جبل صهيون سيخرج من إسبانيا”! هو إذن هذا الرجل الذي خرج من إسبانيا لتحقيق نبوة “استرجاع” القدس.

لقد بذل مساعي كثيرة لدى الملكين الإسبانيين -وقبلها في البرتغال- لإقناعهما بتمويل رحلته الاستكشافية، وقد أقنعهُما أخيراً فجهّزا له ثلاث سفن أبحرت في الثالث من شهر غشت 1492. ويطول الإبحار ويستبد الشك واليأس بالبحّارة إلى أن يظهر ضوء صغير من اليابسة كانت جزيرة باهاماس. ينزل كولومبوس وبعض جنوده في قوارب ومعهم موثق ليوثّق ملكية الأرض المكتشفة للتاج الإسباني ويغرس فيها رايتي ملكيْة. يهرع إليهم الأهالي وهم يهلّلون فرحين بهم معتقدين أنهم هبطوا إليهم من السماء! لو كانوا يعلمون ما سيحل بهم على أيدي أبناء السماء هؤلاء من استرقاق وتسخير وأمراض لم يكونوا يعرفونها وإبادة جماعية.

جلب معه في رحلته الأولى من بين رحلاته الأربع هنوداً استعرضهم في شوارع إشبيلية ثم في البلاط الملكي، كما حمل معه ببغاوات وأيضا التبغ الذي سيستعمل أول الأمر في العلاج قبل أن تعمّ البلوى بتدخينه. وقدر فقهاؤنا هل تدخينه حلال أم حرام، فأحلّه فقيه مغربي ثائر هو أبو محلّي وحرّمه فقيه مصري يُدعى السنهوري.

أفاد كولومبوس في رحلته الاستكشافية من تطور علم الخرائط واختراع البوصلة وتطور صناعة السفن. إلا أن المثير للاهتمام هو أنه أفاد من علم الجغرافي الفلكي المسلم أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني، والذي كان قد كلفه الخليفة العباسي المتوكل بإنشاء مقياس لفيضان النيل. واسمه اللاتيني Alpaganus، وقد ترجم كتاب له إلى اللاتينية ثم إلى العبرية. وقد اعترف كولومبس بفضل الفرغاني عليه في تدقيق مقاييس الأرض.

كان لغزو القارة الجديدة حافزان: الذهب والتنصير. وقد كان الغزو كارثة على السكان، من إبادة جماعية واسترقاق وتسخير، وهو ما تسبّب في انهيار ديمغرافي للهنود بسبب التنكيل والقتل والأمراض التي حملها معهم الغزاة، وانخفاض الإنجاب لدى نساء الهنود الجائعات المرهقات.

إن هذه الكارثة التي حلت بالسكان الأصليين أثارت جدلا بين فقهاء المسيحية الإسبان حول شرعية الحرب على الهنود. وقد دعا الملك الإسباني كارلوس الخامس إلى مناظرة بين المدافعين عن الهنود وبين الذين برّروا شرعية الحرب على الهنود فأفتوا بأنها حرب عادلة. والسؤال مدار المناظرة بينهم كان هو التالي: هل “الهنود” لهم الحق في الحرية فلا يجوز امتلاكهم واسترقاقهم، وهل لهم حق الملكية فيحرم نزع ما بأيديهم من ممتلكات، أم هم ليسوا بشراً فيحلّ استعبادهم ونزع ممتلكاتهم فلا حق لهم لا في الحرية ولا في الملْكية؟ وأبرز من تواجهوا في هذه المناظرة كان خوان سبيلكوفيدا الذي برّر الحرب “العادلة” ضد الهنود فأجاز تسخيرهم واسترقاقهم ونزع ممتلكاتهم وتنصيرهم قسراً، بدعوى أنهم غارقون في الخطيئة كالزنى بما فيه زنى المحارم والتضحية بالبشر قربانا حسب طقوسهم. أما أبرز المدافعين عن الهنود فهما بارتولومي لاس كاساس وفرنسيسكو فيتوريا.

 فالأول، ورغم صداقة عائلته لكولومبوس، فقد انتقده: “إن الأميرال [كولومبوس] والذي كان حريصا على إرضاء ملكيه قد ارتكب جرائم في حق الهنود”. أليس كولومبوس هو الذي كتب إلى ملكيْه: “إننا بخمسين رجلا فقط نستطيع أن نخضعهم جميعا ونفعل بهم ما نشاء؟”. لقد ترك لاس كاساس كتابات تعتبر وثيقة تاريخية في إدانة النظام الكولونيالي الإسباني في القارة الجديدة خلال العقدين الأولين لغزوها، فقد كتب يقول: “إن كل ما عملناه هو الغصب والقتل والبتر والتدمير”.

وأهم مدافع ثان عن الهنود هو فرناسيسكو فيتوريا، بل هو أهم النظّار الثيولوجيين لحق الهنود في مبدأين أساسيين: الحرية وحق الملكية. فقد ألقى دروسا في جامعة سالامنكا جاء في بعضها ما يلي: “نريد أن نتحدث عن أناس عديدين أُبيدوا وغُصبوا وهم في الحقيقة أبرياء، عن بشر طردوا من ممتلكاتهم وجُرّدوا من سلطتهم (…) وما بلغني فهو فضائح عديدة وعنف إجرامي”. لقد كان لهم نظامهم الطبيعي قبل الغزو، وهو غزو بمبرّر اعتبارهم ذوي عقائد ضالة وكفار ينبغي تنصيرهم. أما فيتوريا فقد حرّم التنصير بالإكراه لأن “الإيمان فعل إرادي” كما قال.

فالهنود عنده بشر، لهم حقوق إنسانية ثابتة لا يمكن تفويتها بأي مبرّر كان، وعلى رأسها الحق في الحرية فلا يجوز استرقاقهم، والحق في الملْكية فلا يحلّ غصب ممتلكاتهم. وقد وضع لبنات لمبادئ حقوقية وسياسية كالحق الطبيعي والقانون الطبيعي والحالة الطبيعية، وهي مبادئ سوف يتأسس عليها الفكر السياسي والحقوقي الحديث.

 

القدس أمام أعين رواد الاستيطان الأمريكي

في العالم 1620 سافر على ظهر السفينة “ماي فلاور” مائة وخمسون من طائفة البيوريتات البروتستانتية قاصدين الأرض الجديدة. مخايلهم عامر براوية العهد القديم عن شعب الله “المختار”. وهم ذاهبون لتأسيس القدس الجديدة على أرض “بكْر”، وكأنها أرض لا مالك لها ولا ساكن. تعاهدوا على ظهر السفينة على تعاقد بينهم جاء فيه: “نحن الآتية أسماؤهم، ولأجل مجد الرب ولإعلاء العقيدة المسيحية وشرف وطننا عزمنا على تشييد أول مستعمرة على هذه الأرض القاصية. وقد اتفقنا اختياراً وعلنا وأمام الله أن ننشئ مجتمعنا السياسي”.

فكما أن العبرانيين قطعوا الصحراء لبناء مجتمع يجسّد عقيدة شعبهم “المختار”، فإن ركّاب سفينة “ماي فلاور” سيقطعون البحر لإنشاء مجتمع عقيدتهم البيوريتانية ليصبح “منارة فوق جبل” كما أصبح يقال. وسيقول جون آدمز، ثاني رئيس للولايات المتحدة: “لقد نظرت إلى تأسيس الولايات المتحدة باحترام وإعجاب باعتبارها انطلاق مشروع للعناية الإلهية لتنوير الجاهلين، وتحرير باقي الإنسانية على وجه الأرض”. المرجعية التوراتية ماثلة في أذهان مؤسسي الولايات المتحدة، مثلما “جعل الله كرمته ليزرعها في الصحراء ويقصي منها المشركين (…) وأرشد شعبه إلى الموطن المقدس وأسكنه فوق جبل [ليصون] ميراثه”.

هو إذن تشييد جديد مع إقصاء كل من ليسوا بيضا بروتستانت. ففي عشرينات القرن الماضي تساءل كاتب عنصري قائلا: “هل مع الصقالبة اللاتين الكاثوليك، واليهود الشرقيين سنحافظ على الروح البروتستانتية (…) التي أسّست الشخصية الأخلاقية والسياسية للولايات المتحدة؟”. هو لا يذكر السود والهنود لأنهم ليسوا من المفكَّر فيهم.

أمريكا قوة عظمى بنيت على خطيئة أصلية. لها اليوم أقوى اقتصاد وأقوى جيش في التاريخ وبها أفضل الجامعات وتستقطب أفضل الأدمغة وقوتها الناعمة مؤثرة على مستوى العالم. لكنها تأسست على خطيئة أصلية. فقد قامت على أنقاض شعب الهنود وحضارات المايا والأزتيك، وجلبت ملايين الأفارقة ليصبحوا عبيداً، بل إن بعض الآباء مؤسسي الولايات المتحدة رغم اقتدائهم بأفكار لوك وروسو في الحرية والعدالة والمساواة كانوا يملكون عبيداً. وحين أبْطل نظام الرق بعد حرب أهلية استمر الفصل العنصري وما يزال.

أوائل المهاجرين لاستيطان أمريكا كانت تحدوهم عقيدة توراتية: بناء القدس الجديدة على أرض اعتبروها بكْرا وكأنها لا مالك لها ولا ساكن. ألا يذكّر هذا بفلسطين التي جاء إليها مستوطنون وكأنها أرض لا مالك لها ولا ساكن؟ هم أيضا جاؤوا بوعد توراتي بحق العودة، وهي عودة حرموها على شعب اغتُصبت بيوتهم وأراضيهم بالأمس القريب ومازالت مفاتيحها وعقود ملكيتها بأيديهم. أقامت إسرائيل على أرض فلسطين دولة نظام فصل عنصري هي وحدها في العالم تفرض الدين والسلالة اليهوديين شرطاً للمواطنة. إن المسلمين هم أيضا يعتبرون التوراة كتاباً مقدّساً، لكنه ليس وثيقة ملكية عقارية!