الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لفيناس: الهوية اليهودية وإسرائيل
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

كتبت مرة إشارة عابرة في هذه الصفحة إلى موقف الفيلسوف اليهودي الفرنسي (من أصل ليتواني) أمانويل لفيناس من الصهيونية والصراع العربي الإسرائيلي، وقد طلب مني البعض الرجوع بالتفصيل للموضوع، نتيجة لأهمية هذا الفيلسوف في الفكر المعاصر وبالنظر إلى كتاباته العميقة حول الأخلاقية اليهودية.

عرف لفيناس بفيلسوف الغيرية التي هي بالنسبة له عمق اليهودية في مقابل الفلسفة اليونانية الأوروبية المتمحورة حول مقولة الوجود والكليات. ولقد انطلق في كتاباته الرصينة من قراءة فلسفية جديدة للنصوص التوراتية وشروحها في التقليد اليهودي، مقدمًا مقاربة غير مسبوقة لمفاهيم المطلق، والتعالي والاصطفاء.

بالنسبة له، لا يكمن جوهر اليهودية في عقيدة دينية بالمعنى الحرفي للعبارة بل بأولية الآخر والغيرية على الذات والعينية، باعتبار أن وجه الغير هو تجلي اللامتناهي الذي يفرض مسؤولية جذرية تجاهه. الوجه هو في آن واحد ما يتطلب المساعدة ويقتضي تلقي الأمر الملزم، ومن هنا تكون أخلاقية الاصطفاء هي هذا التجسيد لديانة المسؤولية، ويكون التعالي هو المصدر العميق للخيرية الأخلاقية السابقة على كل معرفة وإدراك.

في شروحه للنصوص اليهودية (التلمود على الأخص) ركز لفيناس على هذه المعاني الأخلاقية، واعتبر أن الإله من حيث هو مطلق غائب يحضر في الفكر فيلغي كل أوهام القدرة على استيعاب الآخر والتحكم فيه، ومن هنا فإن الممارسة الدينية الحقيقية تتم في الظاهرة الأخلاقية لا خارجها.

لم يتحمس لفيناس لأطروحات هرتزل ومؤسسي الفكرة الصهيونية، ولم يكن من دعاة بناء دولة قومية لليهود، بل اعتبر أن جوهر الفكرة اليهودية هو الشتات والتيه، وكتب سنة 1959: “أن اليهودي رجع بالفعل، ولا حاجة له في دولة، ولا حاجة له في أرض لإثبات استمرارية وجوده. إن ما يحتاج إليه هو المسؤولية دون دعامة مؤسسية، تحت مظلة الأخلاق”. من هذا المنظور نفسه، اعتبر أن مقولة “الاصطفاء” (عقيدة الشعب المختار) يجب ألا تُفهم بمعنى الاستعلاء على الأمم الأخرى، ولا تمنح حقوقًا استثنائية لليهود بل تنيط بهم مسؤوليات استثنائية. كما اعتبر أن “أرض الميعاد” ليست مقولة جغرافية مادية، بل هي الأفق الرمزي لتحقيق المسؤولية الأخلاقية المطلقة. فلقد كانت اليهودية دومًا بالنسبة له “متحررة إزاء الأماكن… التوراة لا تعترف بأي أرض مقدسة “.

إلا أنه مع ذلك تحمس لنشأة الدولة الإسرائيلية واعتبرها الشرط الضروري لبقاء اليهودية بعد أحداث المحرقة، وإن كانت الدولة بذاتها ليس بإمكانها استيعاب المخزون اليهودي في شموليته وسعته .

دافع لفيناس طول حياته عن هذه الدولة واعتبر أنها محاطة بأعداء لا يعترفون بها، ومن ثم كان من حقها الدفاع عن وجودها بالسلاح والعنف.

لكن حرب 1967 وما تلاها من حركة استيطان استعماري في الأراضي المحتلة سنة 1967 فتحت عينيه على مخاطر تحول الضحية إلى جلاد يمارس القمع والاستغلال ضد الغير.

كتب بعد هذه الحرب محذرًا من تحويل الروحانية اليهودية إلى “رحم لنمط من هوس الهوية”، بحيث يهيمن عليها “تقديس الجذور” على حساب أخلاقيات المسؤولية. كان أكثر ما يخشاه لفيناس هو تحول الصهيونية إلى نمط من القومية العنصرية تبرر الاستيطان الاستعماري في المناطق الفلسطينية المحتلة، ولذا؛ اعتبر أن على إسرائيل أن تتجنب سياسات القمع والاحتلال التي من شأنها أن تفقدها “روحها” اليهودية .

ومن هنا كان حماس لفيناس لزيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لإسرائيل ومبادرة السلام التي حملها إلى حكومة تل أبيب، وراهن على هذه الخطوات من أجل قيام نمط من “الجوار السلمي” بين العرب واليهود قد يتطور إيجابيًا إلى “شراكة أخوية كاملة “.

بعد مجازر صبرا وشاتيلا الفظيعة، عبّر لفيناس بصراحة عن امتعاضه من هذه الجريمة الشنيعة التي اعتبر أنها جرح عميق للضمير اليهودي ولا يمكن تبريرها بالرجوع إلى تركة المحرقة، ولا يمكن إنكار كونها تمت في الشرق الأوسط وليس في أوروبا وتحت رعاية إسرائيلية.

ليست نصوص لفيناس حول الموضوع الفلسطيني بالكثيرة، وهي في غالبها نصوص ثانوية لم تثر اهتمام قرائه. ولقد أثارت الفيلسوفة الأمريكية جديث باتلر جدلًا واسعًا حول صمت لفيناس عن مأساة الشعب الفلسطيني، الذي لا يتناسب مع فلسفته الأخلاقية السلمية المناهضة للعنف والقتل.

كتبت باتلر في الموضوع :

” يرى لفيناس أن تحريم العنف خاص بأولئك الذين تفرض وجوههم عناية من لدني، ومع ذلك تتمايز هذه الوجوه بحسب خلفياتها الدينية والثقافية. إن ذلك ما يولد سؤال ما إذا كان ثمة إلزام بالحفاظ على حياة أولئك الذين يبدون “بلا وجوه” وفق هذه الرؤية، وربما لتوضيح هذا المنطق لا يبدون لأنهم بلا وجوه”.

تحيل باتلر هنا إلى حوار مع لفيناس يقول فيه بوضوح إن معنى الغيرية يختلف عندما يكون الآخر عدوًا، فتنتفي عندئذ المسؤولية الأخلاقية تجاهه. في هذا الحوار يشير لفيناس صراحة إلى “تضامنه” مع الجيش الإسرائيلي في حربه “الدفاعية والاستباقية” ضد عدوه، متحدثًا عمّا أسماه “بشعبه اليهودي “.

لقد انتقد مرة الفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور صديقه لفيناس قائلًا إن الثغرة الكبرى في تفكيره الأخلاقي هي غياب فلسفة سياسية بالمعنى الدقيق في نسقه الفكري. ومن ثم فإن مفهوم الغيرية لديه يظل حبيس العلاقة الأخلاقية التي لا تتعدى الصلة بين الذات والآخر، بينما تكمن العدالة في المؤسسات المنصفة المجردة من الأهواء، والنزعات العاطفية والضامنة للحقوق.

إن هذه الثغرة هي التي حالت بين لفيناس وإدراك الأبعاد الحقيقية للموضوع الفلسطيني، رغم مواقفه المعلنة الرافضة للاستيطان الاستعماري وقمع السكان الأصليين. لقد ظلت فلسفة الأخلاق لدى لفيناس مادة للتفكير الفلسفي والتأويل اللاهوتي دون أن تترتب عليها مواقف منسجمة ودقيقة بحجم مأساة الشعب الفلسطيني وعدوان الدولة التي تسمى باليهودية وإن كانت في حقيقتها أفدح انتهاك لما سماه لفيناس بأخلاق المسؤولية اليهودية .