الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟بناء المؤسسات، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

تحتاج أي عملية تكاملية بين دول ذات سيادة إلى بنية تنظيمية ومؤسسية تديرها. وتختلف البنية التنظيمية والمؤسسية للتجارب التكاملية المختلفة باختلاف السياق والتاريخ الذي نشأت فيه، والمنهج المستخدم في إدارة هذه العملية، والعوامل الدولية والإقليمية التي أثرت على مسيرتها..إلخ. ولأن كافة العوامل المؤثرة على تجربة التكامل الأوروبية، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون، تختلف عن العوامل المؤثرة على تجربة التكامل العربية، فقد كان من الطبيعي أن تختلف عملية بناء المؤسسات في كلتا التجربتين، وذلك على النحو التالي:  

أولًا: بالنسبة للتجربة الأوروبية

تجربة التكامل الأوروبي هي، أولًا وقبل كل شيء، تجربة في التكامل بين دول ذات سيادة. ولا شك في أن الدول ذات السيادة تدرك، حين تقبل بمحض إرادتها الدخول في أي عملية تكاملية، خاصة حين تكون عملية متدرجة تبدأ بالتكامل في قطاعات محددة ثم تتسع عبر خطوات محسوبة لتشمل باقي القطاعات، أن هذه العملية تفرض عليها التنازل عن جانب من سيادتها وسلطتها لصالح سلطة عليا مشتركة تتولى إدارة القطاعات التي وقع عليها الاختيار، وتزويد هذه السلطة بما يكفي من الصلاحيات لتمكينها من القيام بوظائفها التكاملية. وهذا بالضبط هو ما فعلته الدول الأوروبية حين قررت إطلاق عملية التكامل فيما بينها عبر تأسيس “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”. فقد تضمن الهيكل التنظيمي لهذه “الجماعة” تشكيل “هيئة عليا” (أو مفوضية)، تكون بمثابة السلطة التنفيذية المخولة بإدارة هذا القطاع، يتم اختيار أعضائها بالتشاور مع حكومات الدول الأعضاء، لكنهم لا يمثلون هذه الحكومات، حيث يتعين عليهم أداء عملهم وفق ما تمليه المصلحة العليا للجماعة. وقد تم تزويد هذه الهيئة بصلاحيات تمكنها من إصدار قرارات ملزمة وواجبة النفاذ الفوري في أمور معينة، وكذلك بصلاحيات تمكنها من إصدار توصيات في أمور أخرى، حيث يتعين على الدول الأعضاء العمل على تحقيق أهداف هذه التوصيات مع ترك الحرية لهم في اختيار الوسائل المناسبة، كما تُركت لهذه الهيئة في الوقت نفسه حرية التعبير عن آرائها تجاه قضايا أو مواقف بعينها دون أن تكون لهذه الآراء صفة الإلزام. كما تضمن الهيكل التنظيمي للجماعة الأوروبية للفحم والصلب “مجلس وزراء” يتكون من ممثلين لحكومات الدول الأعضاء، ويتولى التنسيق بينها وبين “الهيئة العليا”.

وتجربة التكامل الأوروبي هي، ثانيًا، تجربة في التكامل بين دول تديرها أنظمة حكم ديمقراطية ولا يسمح لغير الدول الديمقراطية بالانضمام إليها، وهو ما يفسر انطلاق هذه التجربة من أوروبا الغربية، وليس من أوروبا الشرقية، ومن عدد محدود من الدول في البداية، هي: فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبرج، ولم يسمح للدول التي لم تكن قد ترسخت فيها بعد دعائم الحكم الديمقراطي، كإسبانيا والبرتغال على سبيل المثال، بالانضمام إلى هذه العملية التكاملية إلا بعد نجاح عملية التحول الديمقراطي فيها. لذا تعين على البنية التنظيمية لـ “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” أن تعكس الطابع الديمقراطي للدول المؤسسة، وهو ما تم فعلًا حين تضمنت هذه البنية “برلمانًا” أطلق عليه “الجمعية المشتركة” تختار أعضاءه البرلمانات المنتخبة من الدول الأعضاء، وخُوّل صلاحيات تمكنه من مراقبة أداء الهيئة العليا. كما تضمنت هذه البنية أيضًا “لجنة استشارية” تضم ممثلين عن المنتجين والعمال والمستهلكين والتجار العاملين في قطاع الفحم والصلب، أي عن مؤسسات “المجتمع المدني” النشطة في هذا القطاع، بالإضافة إلى “محكمة أوروبية” تكون بمثابة الجهاز القضائي المخول بالفصل في النزاعات التي قد تنشب بين هذه الأجهزة المختلفة.

وتجربة التكامل الأوروبي هي، ثالثًا، تجربة في التكامل بين دول متباينة الأحجام والأوزان والقدرات، ولأنه لا يمكن مساواة دولة صغيرة في حجم لوكسمبرج بدولة كبيرة في حجم ألمانيا أو فرنسا، فقد تطلب الحرص على ضمان فاعلية العملية التكاملية، من ناحية، وكذلك الحرص في الوقت نفسه على عدم المساس بسيادة واستقلال الدول الأعضاء، تصميم عملية اتخاذ القرار في الجماعة بطريقة مبتكرة تتمكن من التوفيق بين هذه الاعتبارات المتناقضة، وهو ما نجحت فيه العملية التكاملية الأوروبية بامتياز.

تجدر الإشارة هنا إلى أن تجربة التكامل الأوروبي شهدت تطورًا مذهلًا، على الصعيدين الرأسي والأفقي. فعلى الصعيد الرأسي لحقت بقطاع الفحم والصلب قطاعات أخرى أدت إلى نشأة جماعات أوروبية جديدة، مثل “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” و “الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية”، ثم راح قطار التكامل الأوروبي يواصل مسيرته إلى أن اكتملت معظم مقومات الوحدة الاقتصادية، وبعدها بدأ يطرق أبواب الوحدة السياسية، بقيام “الاتحاد الأوروبي” اعتبارًا من عام 1993. أما على الصعيد الأفقي، فقد توسعت العملية التكاملية بالانضمام التدريجي لدول أوروبية أخرى إلى أن وصل عدد الدول الأعضاء فيها حاليًّا 27 دولة، من بينها دول من أوروبا الشرقية، بل وبدأت تضم دولًا كانت أعضاء في الاتحاد السوفييتي سابقًا! ورغم ما طرأ على البنية المؤسسية لعملية التكامل الأوروبي من تطور كبير عبر مسيرتها الطويلة، إلا أنها حافظت في جوهرها على التصور الأصلي الذي تضمنته البنية المؤسسية لـ”الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” مع الحرص الدائم في الوقت نفسه على تطوير طابعها الديمقراطي، من ناحية، وإنشاء المزيد من المؤسسات الفنية اللازمة لمواكبة هذا التطور، من ناحية أخرى.

ففيما يتعلق بتطوير الطابع الديمقراطي، يلاحظ، على سبيل المثال، أن “البرلمان الأوروبي” حل محل “الجمعية المشتركة”، وبدلًا من اختيار أعضائه من جانب برلمانات الدول الأعضاء أصبح يتم انتخابهم بالاقتراع المباشر من جانب الناخبين، وتوسعت صلاحياته بحيث أصبح يمارس دورًا رقابيًّا أوسع، خاصة في مواجهة “المفوضية” التي كانت تسمى من قبل “الهيئة العليا”، وتم تحديد حصة من مقاعد البرلمان الأوروبي لكل دولة عضو، تتراوح بين 96 مقعدًا لأكبر هذه الدول (ألمانيا) و6 لأصغرها (قبرص ولوكسمبورج ومالطة). كما يلاحظ أن الأجهزة الرقابية لم تعد تقتصر في جانبها السياسي على البرلمان، أو في جانبها القضائي على محكمة العدل الأوروبية، وإنما استحدثت أجهزة رقابية أخرى لفحص ومراجعة الميزانية، مثل محكمة المراجعين..إلخ.

 وفيما يتعلق بالمؤسسات الفنية المستحدثة، يلاحظ أن البنية التنظيمية لمؤسسات الاتحاد الأوروبي اتسعت تدريجيًّا وأضيفت إليها مؤسسات كثيرة على درجة كبيرة من الأهمية والفاعلية، مثل “لجنة الأقاليم” و”البنك المركزي الأوروبي” و “البنك الأوروبي للاستثمار”، ومن ثم أصبحت البنية المؤسسية لعملية التكامل الأوروبي على درجة كبيرة من التعقيد والتشابك يصعب حصرها في كثير من الأحيان.

ثانيًا: بالنسبة للتجربة العربية

في المقابل، يلاحظ أن قضية بناء المؤسسات لم تحظ بأي اهتمام يذكر في التجربة العربية. فحين تأسست جامعة الدول العربية عام 1945 لم ير التيار القومي العربي في قيامها خطوة نحو الوحدة، وإنما اعتبرها تكريسًا لحالة التجزئة القائمة في العالم العربي. بل إن الدول العربية المؤسسة للجامعة العربية لم تكن معنية وقتها ببدء عملية تكاملية حقيقية تنتهي بالوحدة وإنما كانت معنية فقط بإقامة إطار مؤسسي للتشاور والتنسيق بين سياسات ترسمها حكومات عربية مستقلة. صحيح أن دولًا عربية، مثل سوريا، تقدمت بمشروعات لإقامة مؤسسات عربية مشتركة على أسس فيدرالية أو كونفدرالية، لكن هذه المشروعات استبعدت في المشاورات التمهيدية، بسبب معارضة دول عربية أخرى رفضت إقامة أي إطار مؤسسي جماعي عربي يتمتع بسلطات فوق الدول. ولأن معظم الدول العربية المشاركة في هذه المشاورات كانت ترفض من حيث المبدأ التنازل عن أي جزء من سيادتها لصالح أي مؤسسات عربية مشتركة، فقد تم الاتفاق على أن يعكس الهيكل التنظيمي للجامعة العربية الحد الأدنى من مستوى التضامن المطلوب لإقامة هيئة للتشاور وليس لصنع السياسات، أي مجرد منتدى للتشاور والتنسيق بين سياسات دول مستقلة، مع ترك الحرية لمن يرغب من الدول العربية في “إقامة تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه ميثاق جامعة الدول العربية، وأن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض”، وهو ما نصت عليه المادة 9 من ميثاق الجامعة. وقد جرت بالفعل محاولات عديدة للاستفادة من هذا النص، أسفرت عن قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وعن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971 وعن قيام الوحدة بين شطري اليمن عام 1990…إلخ، غير أن معظم هذه المحاولات إما باء بالفشل التام أو تعثر في مسيرته التي لم ينج منها سوى المحاولة التي أفضت إلى قيام دولة الإمارات العربية المتحدة. غير أن أيًّا من هذه المحاولات لم يشكل نواة لعملية تكاملية حقيقية تنتهي بالوحدة العربية، على غرار العملية التكاملية التي انطلقت في أوروبا، بقيام “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، وانتهت بقيام “الاتحاد الأوروبي”.

على صعيد آخر، يلاحظ أن مؤسسات جامعة الدول العربية نفسها شهدت نموًا على الصعيدين الأفقي والرأسي. فقد انضمت كافة الدول العربية التي حصلت على استقلالها تباعًا إلى جامعة الدول العربية، ليرتفع العدد من 7 عند التأسيس إلى 22 دولة حاليًّا، بما فيها فلسطين. وعلى الصعيد الرأسي، شهدت البنية المؤسسية تطورًا أدى إلى إقامة العديد من المنظمات العربية المتخصصة المرتبطة بجامعة الدول العربية، لكن هذا التطور لم يؤد إلى نقلة نوعية في البنية التنظيمية، خاصة وأن جميع المنظمات أو الوكالات المتخصصة أقيمت على نفس الأسس التي قامت عليها جامعة الدول العربية ولم تتمتع بأي سلطات فوق قومية. ولم يكن من المتصور، في سياق كهذا، أن تطرح القضايا الإشكالية، من قبيل اختلاف أحجام وأوزان الدول العربية، على صعيد البحث أصلًا، لأن الدول العربية رفضت رفضًا قاطعًا فكرة إقامة أي سلطة فوق الدول لتحقيق أي نوع من التكامل بينها في أي من قطاعات النشاط الإنساني سواء تعلق ذلك بقطاعات اقتصادية أو سياسية.