الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ السياق الإقليمي، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

ظهرت “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، وهي المنظمة التي أصبحت بمثابة القاطرة التي نجحت في أن تجر وراءها تدريجيًّا مختلف عربات التكامل الأوروبي إلى أن أوصلته إلى محطة “الاتحاد الأوروبي” التي يقف عندها الآن، في سياق إقليمي يختلف عن السياق الذي ظهرت فيه “جامعة الدول العربية”، وهي المنظمة التي كان يفترض أن تقود عملية التكامل والوحدة في العالم العربي. وسوف نحاول فيما يلي شرح وتحليل سمات النظام الإقليمي الذي أحاط بعملية التكامل التي انطلقت في التجربتين الأوروبية والعربية.

أولًا: بالنسبة للتجربة الأوروبية

حين انطلقت العملية التكاملية في أوروبا في بداية خمسينيات القرن الماضي، كانت أوروبا التاريخية منقسمة إلى شطرين يفصل بينهما ستار حديدي. ولم يكن الستار الفاصل بين أوروبا الشرقية والغربية تعبيرًا فقط عن انقسام سياسي أو أيديولوجي بين منطقتين تقعان جغرافيًّا داخل نفس القارة، لكنه كان تعبيرًا في الوقت نفسه عن انقسام حاد بين معسكرين عالميين متصارعين اندلعت بينهما حرب باردة. وبينما خضعت دول أوروبا الشرقية لهيمنة شبه مطلقة من جانب القوة العظمى التي آلت إليها قيادة المعسكر الشرقي، وهي الاتحاد السوفييتي، بل وتعرّض بعضها، كالمجر وتشيكوسلوفاكيا، لغزو عسكري سوفييتي خلال فترة الحرب الباردة، ارتبطت دول أوروبا الغربية بعلاقات سياسية، وأمنية واقتصادية خاصة مع القوة التي آلت إليها قيادة المعسكر الغربي، وهي الولايات المتحدة، وذلك من خلال حلف الناتو ومشروع مارشال، كما سبقت الإشارة. ورغم ظهور خلافات لاحقة بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وصلت أحيانًا إلى درجة التوتر، كما حدث إبان أزمة السويس عام 1956 وأزمة انسحاب فرنسا من البنية العسكرية لحلف الناتو عام 1966، إلا أن هذه الخلافات لم تصل قط إلى مستوى الصدام المسلح. وقد عكست هذه الأوضاع نفسها على السياق الإقليمي الذي ولدت وترعرعت فيه العملية التكاملية التي بدأت في أوروبا الغربية، وذلك من خلال مجموعة من الترتيبات الصريحة أو الضمنية، يمكن اختزالها في ثلاثة توجهات:

  1. معالجة الأمور ذات الصلة بقضايا الأمن في إطار حلف الناتو أو في إطار مؤسسات أوروبية تشارك فيها الولايات المتحدة أو بالتنسيق معها.
  2. احترام الحدود السياسية الناجمة عن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية والقبول بها حدودًا دائمة لا ينبغي التشكيك فيها أو المطالبة بتعديلها.
  3. حرية أوروبا الغربية في إقامة ما تراه من أطر مؤسسية وتنظيمية خاصة لتحقيق التعاون وتنسيق السياسات فيما بينها في مختلف المجالات، ولكن دون المساس بالإستراتيجية الغربية العليا.

  ولا شك في أن هذا السياق الإقليمي بدا مثاليًّا لولادة ورعاية تجربة في التكامل والاندماج داخل أوروبا الغربية تحديدًا، وكان له تأثير حاسم في بلورة المنهج الذي سلكته هذه التجربة، ألا وهو المنهج الوظيفي الذي يقوم على بناء العملية التكاملية من أسفل إلى أعلى، وليس العكس، أي البدء بالتكامل في قطاعات فنية محددة، خاصة في مجالات الاقتصاد والتجارة، ثم التدرج بهذه العملية إلى أن تنتهي بالتكامل في المجالات السياسية والأمنية. وعندما انهار المعسكر الاشتراكي وسقط الستار الحديدي، كانت العملية التكاملية التي بدأت بقطاع الفحم والصلب دون غيره من القطاعات، وبست دول أوروبية غربية فقط، قد نمت وترعرعت إلى أن وصلت إلى درجة من القوة مكنتها لاحقًا وتدريجيًّا ليس فقط من الانتقال إلى المجالات السياسية والأمنية، وإنما أيضًا من استيعاب دول أوروبا الشرقية في نسيجها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العملية التكاملية التي شكلت نسقًا إقليميًّا فرعيًّا مستقلًا وقائمًا بذاته، لم تكن منفصلة عن التفاعل مع بقية الأنساق الأوروبية العامة أو الفرعية التي تأسست قبلها أو راحت تتداعى بعدها. ويعتبر “مجلس أوروبا”، والذي تأسس عام 1949 من عشر دول أوروبية غربية وأصبح يضم الآن 46 دولة، من بينها روسيا الاتحادية نفسها، هو الإطار التنظيمي العام للنظام الأوروبي ككل، وعكس تطور العضوية فيه عمق التحولات التي طرأت على هذا النظام منذ نشأته عقب الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. كما تجدر الإشارة إلى أن الأنساق التنظيمية الأوروبية تداخلت عضويًّا في كثير من الأحيان مع الأنساق الغربية (وبالذات الأطلنطية)، خاصة في المجالين الأمني والاقتصادي. ففي المجال الأمني، لا يقتصر الأمر على حلف الناتو، والذي تأسس عام 1949 من عشر دول وأصبح يضم الآن 30 دولة معظمها أوروبية، ولكن توجد منظمات أوروبية أخرى على علاقة وثيقة به، مثل اتحاد أوروبا الغربية، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وفي المجال الاقتصادي، لا يقتصر الأمر على “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية” التي تضم معظم الدول الغربية المتقدمة اقتصاديًّا، ولكن توجد منظمات أوروبية أخرى، مثل “الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة” و”المنطقة الاقتصادية الأوروبية”.. إلخ. غير أنه يتعين الانتباه إلى أن “الاتحاد الأوروبي”، والذي يجسد العملية التكاملية الأوروبية في المرحلة الراهنة من مراحل تطورها، ليس مجرد واحد من الأنساق الفرعية التي يتشكل منها النظام الإقليمي في أوروبا، وإنما هو الإطار المؤسسي الوحيد لعملية تكاملية تستهدف تحقيق الوحدة السياسية في أوروبا، وهي عملية تتسم بخصائص محددة، أهمها:

  1. وجود قاطرة محرّكة لها تتمثل في التفاهم الفرنسي الألماني. فما كان يمكن لهذه العملية أن تبدأ أو تنطلق دون حل عقدة الأمن بين فرنسا وألمانيا، ولم يكن لها أن تستمر وتتطور دون اتفاق وتنسيق دائم بين هذين الدولتين تحديدًا.
  2. وجود مجموعة صغيرة من الدول النواة، هي: ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج، وهي المجموعة التي أسست الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، ولولاها لما نجحت هذه العملية أصلًا. ويعتقد على نطاق واسع أن قصر عملية التكامل الأوروبي في بدايتها على عدد محدود من الدول كان أحد عناصر نجاحها، ولو كانت قد بدأت بمجموعة أكبر، مثل بقية الأنساق الفرعية الأوروبية، لكان الأرجح أن تتعثر وتفشل.
  3. التشدد في تحديد شروط الانضمام إلى هذه العملية. فهناك شروط فنية دقيقة، إضافة إلى الشروط العامة التي تتطلب أن تكون الدولة الراغبة في الانضمام أوروبية أولًا وديمقراطية ثانيًا، في مقدمتها ضرورة الالتزام بكافة اللوائح والقوانين التي سبق إقرارها، وهو الشرط الذي يعرف باسم “المكتسبات الأوروبية”. فقبل أن تصبح الدولة الراغبة عضوًا فعليًّا، عليها أن تقوم مسبقًا بتغيير كافة لوائحها وقوانينها الداخلية بما يتوافق مع القوانين واللوائح التي تم إقرارها عبر المسيرة التكاملية.
  4. إعادة الهيكلة المستمرة للأطر المؤسسية والتنظيمية كي تتوافق مع التوسع المستمر في العملية التكاملية، أفقيًّا ورأسيًّا، وللحيلولة دون تحول الاتحاد الأوروبي إلى آليات بيروقراطية ثقيلة الحركة وغير قادرة على أداء مهامها المتغيرة.

ثانيًا: بالنسبة للتجربة العربية

 يشكل البعد القومي القائم على الاعتقاد بأن الشعوب العربية كلها تنتمي إلى أمة واحدة، وهو بعد غائب في التجربة الأوروبية، إحدى أبرز خصائص النظام الإقليمي العربي التي كان يفترض أن تضفي عليه قدرًا أكبر من التماسك والتجانس. غير أن المسار الذي سلكه النظام الرسمي العربي، والذي تأسس بقيام جامعة الدول العربية عام 1945، يشير إلى أنه واجه معضلتين رئيسيتين منذ البداية:

الأولى: تتعلق بالعلاقات البينية بين وحداته، والتي اتسمت بالكثير من مظاهر التوتر، وعدم الاستقرار والتنافس الشديد بين قادة الأنظمة العربية الحاكمة.

والثانية: تتصل بالعلاقة مع دول الجوار الإقليمي، وبالذات مع إسرائيل وتركيا وإيران، والتي أخذت طابع العداء الذي وصل إلى حد الصدام المسلح حينًا، والصراع حينًا آخر، والتوتر في معظم الأحيان. فقد دخلت الدول العربية، مجتمعة أو منفردة، خمس حروب متتالية مع إسرائيل، ودخلت العراق وإيران حروبًا بالوكالة، بسبب المشكلة الكردية، قبل أن يدخلا معًا في حرب مباشرة طويلة الأمد عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران. وكادت سوريا وتركيا تدخلان معًا في مواجهة مسلحة في أكثر من مناسبة، وذلك قبل أن تقرر تركيا التدخل المسلح في سوريا، مستغلة أحداث “الربيع العربي”.

في سياق كهذا، والذي يبدو فيه العالم العربي مخترقًا من الخارج وتتسم علاقاته البينية بالتوتر، يصعب الدخول في تجربة تكاملية أو وحدوية تتمتع بالاستمرارية وقابلة للتطور والازدهار. صحيح أن قيام جامعة الدول العربية شكل حدثًا بالغ الأهمية، رغم أنه لم يرق إلى مستوى الطموح القومي للشعوب العربية، غير أن البنية المؤسسية لهذه الجامعة بدت وكأنها تستهدف تكريس واقع التجزئة بأكثر مما تستهدف التأسيس لعملية تكاملية أو وحدوية، لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوى السياسي والأمني. فقد اكتفى ميثاق الجامعة العربية، عند النشأة، ببنية مؤسسية محدودة تتكون من مجلس يتألف من ممثلي الدول الأعضاء، ومن لجان نوعية تعالج أمورًا تتعلق بالشئون الاقتصادية والمالية، وشئون المواصلات، وشئون الثقافة، وشئون الجنسية والجوازات والتأشيرات.. إلخ. صحيح أن هذه البنية تطورت كثيرًا فيما بعد، تحت تأثير التطور الذي شهده التنظيم الدولي، من ناحية، وهو التطور الذي أدى إلى قيام شبكة واسعة من المنظمات العربية المتخصصة المرتبطة بالجامعة، وكذلك تحت تأثير التطور الذي شهده الصراع العربي الإسرائيلي، من ناحية أخرى، وهو التطور الذي أدى إلى إبرام معاهدة الدفاع العربي المشترك عام 1950، ثم المؤسسات العربية المشتركة المتعلقة باستغلال نهر الأردن وروافده في منتصف ستينيات القرن الماضي، غير أن التوسع الأفقي الهائل في بنية المؤسسة لم يواكبه أي توسع رأسي نوعي في مهام ووظائف هذه البنية، كما سنشير لاحقًا.