الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مدرسة فرانكفورت والمسألة الصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عندما وقع الفيلسوف الألماني المعروف يورغن هابرماس عريضة يعلن فيها تعاطفه مع إسرائيل في حربها العدوانية على غزة، لم يكن الكثيرون يدركون أن موقفه الذي أثار ضجة واسعة ينسجم مع مواقف الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت الفلسفية التي هو اليوم ممثلها الأساسي.

ما تعنيه مدرسة فرانكفورت هو الاتجاه الفلسفي الذي ظهر في العشرينيات في مدينة فرانكفورت الألمانية في إطار “معهد البحث الاجتماعي” الذي أسسه ماكس هوركهايمر (المتوفى 1973) وتيودور أدورنو (المتوفى 1969)، وقد خلفهما في الموقع والتأثير هربرت ماركوز (المتوفى 1979).

أركان المدرسة الثلاثة ينحدرون من أصول يهودية، حتى لو كانوا يتبنون علنًا خطًا يساريًا خليطًا من الماركسية والفرويدية يسعى إلى وضع نظرية نقدية جديدة لا تكتفي بمواجهة الرأسمالية في بنائها الاقتصادي والاجتماعي، وإنما تستهدف أسسها الفكرية العميقة من مقومات عقلانية وعلمية.

وهكذا شكل كتاب “جدلية التنوير “Dialektik der Aufklärung,  لهوركهايمر وأدورنو الصادر سنة 1944 الوثيقة المرجعية لهذا الاتجاه الفلسفي. في هذا الكتاب، يوجه المؤلفان نقدًا جذريًا لإرث التنوير، الذي تحول من مشروع لتحرر الإنسان عن طريق العقل والعلم، إلى نمط من الهيمنة والتحكم الاستبدادي من خلال التوظيف الأداتي للعقل وتحديد غاية العلم بالسيطرة على الطبيعة التي تفضي إلى تدميرها ومن ثم تدمير الوجود الإنساني على الأرض.

في هذا الكتاب، يخصص المؤلفان حيزًا هامًا لنزعة العداء للسامية بصفتها من انحرافات التنوير العقلي الحديث، والنكوص إلى الأساطير والتوهمات النفسانية المرضية كما تعبر عنها النزعة الفاشستية في نظرتها العدوانية لليهود.

ليس في الأمر غرابة، فمن المعروف أن الوجوه الثلاثة المذكورة عاشت مآسي النازية وهاجرت إلى الولايات المتحدة هربًا من فظائعها.

لكن المثير في الموضوع، هو أن فلاسفة فرانكفورت الذين تبنوا خطًا يساريًا نقديًا، تحمسوا للنزعة الصهيونية التي هي النقيض النظري والإيديولوجي لمشروع التنوير الراديكالي الذي يدافعون عنه، كما تعاطفوا مع سياسة إسرائيل العدوانية ضد الفلسطينيين بل ذهبوا إلى حد اعتبار حركة المقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي نمطًا من الفاشستية المعادية للسامية.

في نص كتبه هوركهايمر سنة 1970، نقرأ بوضوح أن محاربة الصهيونية هي التعبير الراهن عن العداء للسامية، بما يبرر بالنسبة له سياسات إسرائيل العسكرية بما فيها حروبها الاستباقية للحفاظ على الوجود اليهودي في فلسطين.

وفي مقالة بعنوان “معنى النازية الجديدة” ، لا يتردد هوركهايمر في اعتبار حركة عدم الانحياز التي كان الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر أحد قادتها “حركة نازية جديدة” تطمح إلى أن تكون قوة ثالثة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي بالتحالف مع أوروبا المهددة بالعودة للنازية .

لا يختلف أدورنو عن هذا الطرح، فقد كتب غداة حرب حزيران/يونيو 1967 رسالة إلى هوركهايمر مبتهجًا بالنصر الإسرائيلي في هذه المواجهة، راجيًا أن يستمر “التفوق العسكري الإسرائيلي على العرب “.

أما هربرت ماركوز الفيلسوف الذي ارتبط اسمه بثورات الطلاب الغربيين عام 1968، فكان شديد التعاطف مع إسرائيل ويرى أنها الحل التاريخي لمأساة الاضطهاد اليهودي في أوروبا، ومهما كان الموقف من الأيديولوجيا الصهيونية يتعين التمسك بإنجازها العملي بإنشاء “كيان قومي لليهود “.

زار ماركوز إسرائيل سنة 1972، وكتب انطباعاته في صحيفة “جرزالوم بوست” قائلًا: “أعتقد أن الهدف التاريخي الذي برر تأسيس دولة إسرائيل هو الحيلولة دون معسكرات الاعتقال والمذابح وغيرها من أشكال القمع والتمييز التي تعرض لها اليهود”، وفي المقال ذاته، لا يتردد ماركوز في القول إن على إسرائيل أن لا تذعن لهيئة الأمم المتحدة و”لا للوصاية الأبوية” للدول التي لم تفعل شيئًا للوقوف ضد المحرقة.

وفي مقدمته للترجمة العبرية لكتابه الأساسي “الإنسان ذو البعد الواحد”، كتب ماركوز أن الشرط الأول والأساسي للتعايش السلمي بين إسرائيل والعرب هو أن يصبح العالم العربي “حرًا”، وإلا لا أمل في أي سلم بين إسرائيل وخصومها العرب.

لم يكن إذن موقف هابرماس تلميذ أدورنو وخليفة هوركهايمر في كرسي الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة فرانكفورت غريبًا، رغم أن الرجل عرف بموقفه القوي مع أولوية حقوق الإنسان في مفهومها الكوني على اعتبارات السيادة الوطنية، باعتبار أن الدولة القومية نفسها قد تم تجاوزها. ولقد عمل هابرماس على إعادة الاعتبار للتصور الكوسموبولوتي للعلاقات الدولية الذي بلوره كانط في مشروعه للسلم الأزلي.

ولذا، فإن الكثيرين أثارهم موقف هابرماس الداعم للعدوان الصهيوني على غزة، واعتبروه متعارضًا في الجوهر مع رؤيته الفلسفية ومقاربته الأخلاقية القانونية لحقوق الإنسان.

لقد ظل هابرماس في الحقيقة وفيًا لخط الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت رغم نقده الحاد لأساتذته من منظور فلسفته التواصلية ما بعد الميتافيزيقية. لا يخفى أن هابرماس ومن قبله أدورنو وهوركهايمر وماركوز ينظرون إلى القضية الفلسطينية من زاويتين هما: عبء المأساة اليهودية الذي يبرر من وجهة نظرهم المعادلة الصهيونية مهما كانت آثارها ونتائجها، والنظرة السلبية للمجتمع العربي بالمقارنة مع ما يرون في إسرائيل من واجهة ديمقراطية حداثية.

ما لا بد من التنبيه إليه هنا هو أن مشروع التنوير النقدي والتحرر الاجتماعي يظل في هذه الحالة عاجزًا عن بلوغ أهدافه الإنسانية الكونية، ويبقى محصورًا في “حقوق” الإنسان اليهودي المضطهد المنتزعة من سياقها الموضوعي. وعلى عكس موقف اليسار الماركسي التقليدي الذي نظر إلى الموضوع الفلسطيني من زاوية الاستعمار الذي اعتبره لينين المحطة المكتملة من الاستغلال الرأسمالي، نرى أن فلاسفة مدرسة فرانكفورت أخفقوا في التنبه إلى معضلة الشعب الفلسطيني وفي تنزيل الأيديولوجيا الصهيونية في سياقها الفعلي الذي هو الموجة الفاشستية الأوروبية التي تغذت فكريًا منها.

في نقدهم لتركة الحداثة والتنوير، اعتبر فلاسفة فرانكفورت أن العقلانية الليبرالية لم تحمِ المجتمعات الغربية من فظائع النازية، ويمكن في الاتجاه نفسه القول إن النقدية الراديكالية لم تحل بين فلاسفة فرانكفورت والتعصب لدولة الاحتلال والتمييز الاستيطاني العنصري.