الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مفهوم وإشكاليات “النهضة العربية” بقلم عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)، المفكر المصري أ.د. حسن نافعة

مشاركة

 لكلمة “النهضة”، لغويًّا، معان متعددة، من بينها، كما تذكر قواميس اللغة العربية، “ارتفاع بعد انحطاط وتجدد وانبعاث بعد تأخر وركود”. وبهذا المعنى يشير مصطلح “النهضة العربية” إلى الجهود الفكرية والسياسية التي تستهدف نقل العالم العربي من حالة الجمود والتخلف التي تتسم بها أوضاعه الراهنة، إلى حالة أرقى تتسم بالهمة، والنشاط والحركة المتواصلة إلى الأمام وإلى الأعلى، ودراسة المشروعات الفكرية، والسياسة المطروحة، وتمكين الشعوب العربية من وضع قدميها على الطريق الذي يؤدي بها إلى اللحاق بركب العالم المتقدم، والمشاركة بفاعلية في الحضارة الإنسانية المعاصرة. ويشير مؤرخ الفكر العربي، ألبرت حوراني، إلى أن وعي العالم العربي بحقيقة تخلفه وتقدم الآخرين، بدأ عقب احتكاكه بالحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت لغزو مصر عام 1798. فقد ضمت هذه الحملة في صفوفها، إلى جانب آلاف الجنود المقاتلين والأفراد المعاونين لهم، عددًا لا يستهان به من كبار العلماء، بلغ أكثر من مئة وخمسين عالمًا، وعددًا أكبر من الخبراء المتخصصين، بلغ أكثر من ألفي خبير في مختلف مجالات العلوم والفنون: كالطب، والهندسة، والزراعة، والري، والآثار، والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ولم تقتصر المعدات التي تزودت بها هذه الحملة على المعدات العسكرية الحديثة والمتطورة، أي على المدافع، والذخائر، والمركبات والأساطيل فقط، وإنما حملت معها أيضًا، إلى جانب أدوات الحرب الفتاكة هذه، مطابع، وآلات، وخرائط، ومخترعات مدنية شتى لم يعهدها المصريون من قبل.

في سياق كهذا، كان من الطبيعي أن يدرك كل من احتك بالحملة الفرنسية، والتي لم تقتصر على غزو مصر فقط، وإنما امتدت إلى الشام أيضًا، مدى التخلف الذي ابتليت به البلاد الشرقية، مقارنة بالبلاد الأوربية، وأن يبدأ العقل الجمعي في طرح السؤال المحوري حول الأنا والآخر: لماذا تخلفنا “نحن” بينما تقدموا “هم”؟ وهو سؤال لم يقتصر طرحه في الواقع على العقل المصري وحده، وإنما بدأ يطرح في اللحظة نفسها على العقل العربي والإسلامي ككل. ورغم مرور أكثر من قرنين وربع على بداية التفكير الجمعي في هذه المسألة، والجهود المضنية والمتتالية التي بُذلت من أجل التوصل إلى حلول فكرية وسياسية لما تثيره من إشكاليات، إلا أن “سؤال النهضة” ما يزال مطروحًا بشدة على العقل العربي والإسلامي، بل وتزداد محاولات الإجابة عليه تعقيدًا بمرور الوقت، ما يعني أننا أمام إشكالية بالغة التعقيد.

فعلى الصعيد الفكري، لا توجد حتى الآن رؤية عربية موحدة قادرة على تشخيص أسباب التخلف الذي أصاب العالم العربي أو تقصي جذوره وروافده في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن طرح الحلول الكفيلة بتجاوز حالة التخلف هذه والأخذ بأسباب ومقومات الانطلاق نحو التقدم والنهضة. وعلى الصعيد السياسي، ما زال النظام الإقليمي العربي عاجزًا حتى الآن عن بلورة وقيادة مشروع نهضوي يمكن لمختلف الأقطار العربية أن تنخرط فيه، وذلك بعد أن تعثرت وسقطت كافة المشروعات الإصلاحية أو النهضوية الشاملة التي انطلقت من هذا القطر أو ذاك، في هذه المرحلة الزمنية أو تلك من مراحل تطور الأقطار العربية. فقد باءت هذه المشروعات جميعها بالفشل لأسباب عديدة، بعضها يعود إلى عوامل داخلية وثغرات وعيوب بنيوية لم تستطع تلافيها، وبعضها الآخر يعود إلى تحديات خارجية لم تتمكن من مواجهتها وحشد الإمكانات اللازمة للتغلب عليها.

             تجدر الإشارة هنا إلى أن الأدبيات العربية تعج بمصطلحات كثيرة تستخدم أحيانًا كمرادفات لمصطلح “النهضة العربية”، منها على سبيل المثال “اليقظة العربية” و”التنوير العربي”… إلخ، غير أنني أعتقد أن مصطلح “النهضة العربية” هو الأدق والأشمل، مقارنة بغيره من المصطلحات المستخدمة كمرادفات. فمصطلح “اليقظة العربية” يوحي بأن العالم العربي استيقظ فجأة، بعد نوم أو سبات، واستعاد وعيه وإدراكه، بعد غفوة أو غياب، وبعد أن استيقظ وبدأ يسترد وعيه، أدرك حالة التخلف التي “هو” عليها، كما أدرك في الوقت نفسه حالة التقدم التي عليها “الآخر” الأوروبي أو الغربي، لكنه لا ينطوي، صراحة أو ضمنًا، على ما قد يوحي بأن هذا العالم، بعد أن استعاد يقظته، بات جاهزًا ومستعدًّا للقيام بما ينبغي عليه القيام به كي يلحق بركب التقدم. كذلك الحال بالنسبة لمصطلح “التنوير العربي”، والذي قد يوحي بأن العالم العربي لكي ينهض يحتاج فقط للاهتمام بالجوانب المعرفية المتصلة بالعقل والاستنارة، أي للجوانب المتعلقة بالفكر والثقافة والتعليم، دون الجوانب المادية التي تهتم بتطبيقات العلم والمعرفة في مختلف المجالات، كالصناعة والزراعة والخدمات بأشكالها المختلفة. لذا يبدو لي أن مصطلح “النهضة العربية” هو الأنسب للاستخدام في هذا السياق لأنه يشير ضمنًا ليس فقط إلى وعي العالم العربي بتخلفه “هو” وتقدم “الآخر”، ولكن أيضًا إلى حرصه الشديد على الأخذ بالأسباب التي تمكنه من النهوض والمشاركة بفاعلية في ركب الحضارة المعاصرة بمختلف جوانبها، وأبعادها الفكرية والمادية.

 ربما يكون من المفيد هنا أيضًا التمييز بين مصطلحي “الحداثة” و”الحضارة”. فالتحديث عملية تهتم أساسًا بنقل منتجات الحضارة الحديثة، من طرق وكباري ومصانع ومدارس وجامعات… إلخ، حتى لو كانت مستوردة كليًّا أو جزئيًّا من الخارج، وهذا هو ما جرى عليه العمل في معظم البلدان العربية. أما الانخراط في مشروع حضاري، فيعني الاهتمام أولًا وقبل كل شيء ببناء الإنسان القادر على الخلق والابتكار في مختلف المجالات، وذلك بالتوازي مع الاهتمام بخلق الظروف الملائمة لإقامة بيئة مجتمعية حاضنة تساعد على تمكين الأمة كلها من التحرر والانطلاق إلى آفاق أرحب، والمساهمة بنصيب معتبر في صنع الحضارة الإنسانية.

             لا شك في أن مسيرة “النهضة العربية”، سواء في بعدها الفكري أو في بعدها الحركي، واجهت إشكاليات عديدة يتعين العمل على تفكيكها والبحث عن حلول ناجعة لها، وذلك في ضوء الخبرة المستفادة من تجربتها التاريخية الخاصة. فعلى الصعيد الفكري، طرحت في البداية قضية الدين، في علاقته بالمجتمع والدولة الإصلاح الديني في البداية، وأصبح “الإصلاح الديني” إحدى أهم القضايا الإشكالية التي يتعين إيجاد حلول ناجعة لها كشرط لتمهيد الطريق نحو نهضة العالم العربي، وتصدى لها مفكرون ومصلحون اجتماعيون من أمثال محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم، ثم تفرع عن هذه القضية الكبرى تباعًا قضايا إشكالية أخرى عديدة: كالأصالة والمعاصرة، والديمقراطية، وتحرير المرأة، والعدالة الاجتماعية، والهوية والأقليات الدينية والعرقية… إلخ. وعندما اندلعت “الثورة العربية الكبرى” التي استهدفت فصل العالم العربي عن الإمبراطورية العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، بدأت قضية الوحدة العربية، بكل ما تنطوي عليه من إشكاليات فكرية وحركية عديدة، تطرح نفسها بإلحاح على العقل العربي، وتصدى لها مفكرون من أمثال ساطع الحصري، ومحمد عزة دروزة، وقسطنطين زريق وغيرهم. وعلى الصعيد السياسي، ظهر زعماء ورجال دولة قادوا مشروعات للنهضة والإصلاح السياسي والاجتماعي في أقطار عربية مختلفة، مثل محمد علي في مصر في بداية القرن التاسع عشر، وخير الدين التونسي في تونس في النصف الثاني من القرن نفسه، وجمال عبد الناصر في مصر أيضًا في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن هذه المشروعات، كما سبقت الإشارة، تحطمت على صخرة الأخطاء الداخلية أو التحديات الخارجية.

             لإثارة حوار حول مسيرة “النهضة العربية”، نأمل أن يكون خصبًا ومثمرًا، سنحاول في هذه الزاوية، عبر مقال أسبوعي، التصدي لبعض القضايا الإشكالية التي تعترض هذه المسيرة على الصعيدين الفكري والحركي، محاولين تفكيكها والتوصل إلى فهم واضح ومحدد لها، كخطوة نراها ضرورية على طريق البحث عن حلول عملية نراها ضرورية لإقالة مسيرة النهضة العربية من عثرتها. وسوف أبدأ هذه السلسلة من المقالات بطرح ومناقشة قضية الوحدة العربية، وذلك من خلال إثارة عدد ومحاولة الإجابة على عدد من التساؤلات، من قبيل: هل الوحدة العربية شرط لتحقيق النهضة العربية وخطوة تسبقها؟ وإذا كانت الوحدة ضرورة، فما شكل الوحدة المبتغاة؟ هل يتعين أن تقام وفق نموذج محدد يتعين الاسترشاد به، وهل ينبغي اشتقاق هذا النموذج من تجارب العرب التاريخية، كتجربة الوحدة المصرية السورية التي فشلت، أو كتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة الناجحة، أم من تجارب الآخرين، كتجربة الاتحاد الأوروبي مثلًا. وحين نفرغ من طرح ومعالجة قضية الوحدة العربية، بأبعادها وإشكالياتها المختلفة، في إطار علاقتها المفترضة بالمشروع النهضوي العربي، سنبدأ في معالجة قضايا إشكالية أخرى، كقضايا الإصلاح الديني أو الديمقراطية وغيرها من القضايا.