الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

ملأ الدنيا وشغل الناس، بقلم د. علي أومليل، المفكر المغربي وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لعقود طويلة ملأ الدنيا وشغل الناس. وضع عنه بيير هنري ليفي كتابًا سماه قرن سارتر. هو مثله انخرط في قضايا العالم شرقًا وغربًا، ذهب إلى كوسوفو وأفغانستان وكردستان وليبيا، وحضّ الرئيس ساركوزي على قصف مدرعات القذافي. ساند كل قضية ماعدا قضية فلسطين، بل انحاز لإسرائيل.

تخرّج في الفلسفة لكنه لم يسلك طريقها المعهود، فلم يُدرِّس في جامعة، ولم يقتصر على الكتابة الفلسفية، بل كتب الرواية والمسرحية والسيناريو والمقالات الصحافية. راديكالي في مواقفه أبدًا. هو ضد السلطة أينما كانت وكيفما كانت. يتظاهر في الشوارع ويوقع العرائض والبيانات ويبحث عن المعامع أينما كانت. يتقلّب في المواقف، يمدح الاتحاد السوفيتي ويدعوه كاسترو إلى كوبا، ثم ما يلبث أن يساعد المعارضين والمتمردين في البلدين.

 يهيئ ملفًا في مجلته الأزمنة الحديثة في الستينيات ويزور لهذه الغاية مصر وإسرائيل. احتفى لمَقْدَمِه المثقفون المصريون. يستقبله عبد الناصر وكأنه رئيس دولة. أصدر بعد هاتين الزيارتين ملفًّا منحازًا إلى إسرائيل.

في أواخر حياته سقط تحت تأثير يهوديين فرنسيين مناصرين لإسرائيل: بيني ليفي المدعو فيكتور، وابنة سارتر بالتبني أرليت القايم التي ورثت كل تركته بما في ذلك شقة أخرجت منها رفيقة درب سارتر سيمون دوبوفوار. كان بيني ليفي (فيكتور) وهو من مواليد القاهرة من قادة ثورة الشباب في 1968. أصبح على رأس تنظيم يساري متطرف ينتمي لأفكار ماوتسي تونغ حمل اسم “اليسار البروليتاري” وجريدته “قضية الشعب” التي كان يبيعها سارتر ورفيقته دو بوفوار في شوارع باريس. يتخلى بيني ليفي عن يساريته المتطرفة ويحل منظمته الماوية ليرتد إلى التراث الديني اليهودي كما فعل مثقفون يساريون  يهود ممن خاضوا ثورة 68 أمثال هنري ليفي، وآلان فيتكيلراوت وشيخهم الروحي ليفيناس.

في أواخر حياة سارتر، يجري معه بيني ليفي حوارًا يرسله إلى مجلة “لونوفيل أوبسيرفاتور”. يتنكر في الحوار لفلسفته الوجودية، ويعترف بأنه وجد ضالته في كتاب اليهود المقدّس التلمود. يُفاجَأ مدير المجلة جان دانييل بالمقال ولا يصدّق. يُهاتِف سارتر فيؤكد له هذا الأخير صحة المقال. ينشره فينزل كالصاعقة على قرائه وخاصة حوارييه.

وعلى كل حال فنجمه بدأ يخبو منذ ثورة الشباب في السنة الثامنة والستين. عبثًا حاول ركوب قطارها. يذهب إلى التجمعات ولكن الجمهور تغيّر. حضر مرة تجمّعًا في أحد مدرجات السوربون وصعد إلى المنصة ليتناول الكلمة. مرّر له مُسيّر الاجتماع ورقة كتب فيها: “سارتر.. اختصر!”. أدرك أن أوانه قد فات فيقول لرفيقته: “آن الأوان أن أحزم حقائبي!”.

هذا الفيلسوف-الظاهرة ليس له مثيل. نقل الفلسفة إلى المقاهي والمنتديات ووسائل الإعلام، فخاض المثقفون وأشباههم في قضايا الكينونة، والعدم، والزمان، والموت والقلق والوجود السابق على الماهية وعن الإنسان الذي هو ثغرة في الكون. أصبح هو وأفكاره وعلاقته غير المألوفة برفيقته سيمون حديث المجالس ووسائل الإعلام التي سلطت عليهما الأضواء.

لقد مضى الزمان الذي كانت فيه الفلسفة شأن خاصة الخاصة، وكان الفيلسوف ضنينًا بفلسفته على العامة. ألم يعترف أفلاطون في رسائله أنه أخفى حقيقة فلسفته عن الجمهور؟ ألم ينصح ابن سينا الفلاسفة أن يكونوا كالخفافيش التي لا تظهر إلا في الليل فلا يبرزون بفلسفتهم في واضحة النهار؟ ألم يؤلف الفيلسوف الأندلسي ابن باجة كتابًا بعنوان تدبير المتوحد، أي الفيلسوف الذي اعتزل الناس؟

لكن القرن الثامن عشر الفرنسي (والذي سُمِّي قرن الفلاسفة)، سيشهد ميلاد المثقف المنخرط في قضايا المجتمع والسياسة. يقول فولتير أحد أعلام ذلك القرن، قرن الأنوار: “إن روح العصر قد جعلت [الكُتَّاب] أكثر التصاقًا بالعالم منهم بمكتبهم المنعزل”. وقد كان فولتير مثالًا على السلطة الثقافية التي أصبحت للمثقف، والمثال على ذلك قضية كالاس، والتي اتُّهم فيها الأب، جان كالاس ظلمًا بتهمة قتل ابنه الذي عزَم على الارتداد عن عقيدة أسرته البروتستانية والعودة إلى الكاثوليكية. وقد أصدرت المحكمة حكمًا بإعدام الأب وإحراق جثته. وقد تعبّأ فولتير للدفاع عن قضية كالاس إلى أن صدر الحكم ببراءة الأب لكن بعد فوات الأوان. ورغم ذلك فقد احتشد الناس أمام المحكمة يصفقون للقضاة أثناء خروجهم بعد إعلان الحكم بالبراءة. وحين توفي فولتير، سارت باريس وراء نعشه في جنازة لن تعرف فرنسا مثلها سوى تشييع جنازة فيكتور هوجو بعده بقرن.

في خمسينيات القرن الماضي، أخذ المثقفون العرب يتعرفون على أفكار سارتر عبر ترجمات نشطت دور النشر خاصة اللبنانية في إصدارها. لقد جذبتهم فكرته عن الحرية التي تجعل الإنسان صانع وجوده، وهم المتعطشون للانعتاق من قيود السلطة وأثقال التقاليد. وشغلتهم أكثر دعوته إلى التزام المثقف، وذلك في مقال نشره سارتر عام 1953 في مجلته الأزمنة الحديثة بعنوان ما هو الأدب؟ وتبنّت مجلة الآداب البيروتية التي كانت واسعة الانتشار بين المثقفين العرب في خمسينيات القرن الماضي هذه الدعوة إلى الالتزام.

وفي اعتقادنا أن طه حسين كان أول من عرض وناقش فكرة سارتر عن الالتزام، وذلك في مقال نشره بعنوان الأدب بين الاتصال والانفصال، أي هل ينبغي أن يكون  الأدب ملتزمًا بقضية من القضايا أم هو غاية في ذاته؟ وَرأْيُ طه حسين أنه هذه “مشكلة قديمة خالدة” حسب عبارته. وقد راح “يتقصّاها” في الأدب الفرنسي، والعربي واليوناني. لكنها ليست مشكلة “قديمة خالدة” كما يعتقد، بل ظهرت بظهور المثقف بمعناه الحديث، أي المثقف الذي أصبح له استقلال وسلطة ثقافية، وذلك بفضل انتشار التعليم والطباعة وهو ما كوّن له جمهورًا من القرّاء يستمد منهم سنده الحقيقي. وقد خاض المثقفون في الغرب يساندهم جمهورهم نضالًا طويلًا من أجل حرية الرأي التي أصبحت مكتسبة في الأنظمة الديمقراطية.

وقد دخل طه حسين في مُجادلات حول موضوع الالتزام، مدافعًا عن رأيه في أن الأدب غاية في ذاته وليس وسيلة لشيء آخر. فقد دخل في جدل في نقاش بإحدى الصحف المصرية مع مُثقفيْن يساريين وهما عبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم. كما جرت في بيروت مناظرة في موضوع الالتزام بين طه حسين والأديب اللبناني رئيف خوري.

لكن قضية الالتزام التي خاض فيها المثقفون العرب وتجادلوا حولها طويلًا ليست هي قضيتهم الأولى، بل حرية التعبير. فحتى لو اختاروا الالتزام بهذه القضية أو تلك فهل ستكون لهم حرية التعبير دفاعًا عنها؟ إن سارتر صاحب نظرية الالتزام يمكنه أن يلتزم بأية قضية أو أي موقف يشاء، فحرية التعبير أصبحت مضمونة في بلده ولم تعد مطلبًا أساسيًّا في الأنظمة الديمقراطية. أما بالنسبة لمثقفينا، فحرية التعبير ما تزال لديهم مطلبًا. لذلك فإن قضيتهم التي ينبغي أن يَلْتَفُّوا حولها والتي هي سابقة على الالتزام بهذه القضية أو تلك هي الدفاع عن حرية التعبير. والتي بغيرها لا تكتمل هوية المثقف ولا تكون “مهنته” ممكنة.