الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

من المُلام؟

مشاركة

أظهر وباء كوفيد- 19أوجه القصور في العديد من مؤسساتنا، الرسمية منها وغير الرسمية أيضًا. ومع ذلك؛ فإننا ما زلنا نتصرف كما لو كان الأشخاص وحدهم هم من يجب أن يتحملوا اللوم أو يتلقوا الثناء. نميل في الأردن لنكون أتباعًا متحمسين للشخص؛ ونوجه كلًا من اللوم والتقدير للشخص ذاته، دون النظر إلى المؤسسات الأساسية، أو المجتمع ككل. فور تسلم رئيس الوزراء منصبه، تحمل الحكومة اسمه تلقائيًا، وتعزى قراراتها أو التردد في اتخاذ القرار كذلك إليه وحده، فصار لدينا حكومة الرزاز، والملقي، والنسور وغيرها، ممن ألقينا باللوم على كل واحد منهم من حيث الإخفاقات في الحكم والأوقات الصعبة التي حلت بالأمة. وفي حين كانت هناك بعض الأخطاء أو سوء التقدير من قبل كل واحد منهم، فهل من الممكن لومهم ولوم من قبلهم فقط بالرغم من السمات الشخصية المختلفة، والتعليم، والتدريب، والمهنة، والمعتقدات، لكل منهم، والحكومات التي ترأسوها؟ 

تمتع كل رئيس من رؤساء وزراء الأردن بشخصية مؤثرة وإنجازات شخصية ومهنية، كما نرى من خلفياتهم التي تتراوح بين العمل في الحكومة والقطاع الخاص والبنك الدولي. وعلاوة على ذلك، لا يملك الأردن رئيس وزراء يتمتع بسلطة مطلقة؛ إذ أن هذا ليس بالبلد الذي تغدو فيه نزوات رئيس الوزراء إجراء أو قانونًا، فلدينا مؤسسات حكم موازية تراقب تنفيذ القرارات. دستوريًا، نمتلك في الأردن سلطة تشريعية، مع نفوذ كبير للديوان الملكي الذي اجتذب أكثر الكفاءات تميزاً، كما أن لدينا جهازًا أمنيًا. شهدنا في الآونة الأخيرة تزايد صوت المجتمع المدني وصعود العملاق الذي يسمى وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أدى إلى مساءلة أكبر لرئيس الوزراء وتدقيق كبير على تصرفاته، على الرغم من أن هذه المساءلة غالبًا ما تنحرف عن مسارها لتتخذ اتجاهًا غير ديمقراطي.

وإذا كان لا يمكن لرئيس الوزراء الاقتراب من كونه مخطئًا بشكل تام، فما الذي يمكن حدوثه؟ وحتى لو نظر المرء إلى الخارج، لطالما كانت الهيئات التشريعية أداة الحكم الرئيسية لرئيس الوزراء، مع كونها، بصورتها الأهم، بيروقراطية وغير مسيّسة. لقد بنيت المؤسسات، سواء السياسية منها أو غيرها، على مدى عقود وقرون لتصبح كيانًا دائمًا ومرنًا وموثوقًا به نسبيًا؛ وعلى هذه المؤسسات، قام الحكم في البلاد. وإذن، ما هي المؤسسات التي ورثها رؤساء وزرائنا؟ وهل أفلت الأردن تمامًا مما وصفه فوكوياما بـ “طغيان أبناء العم” ليصنع دولة حديثة بالمعنى الذي قصده “فيبر”؟

أولًا، من الواجب تفسير مصطلح “طغيان أبناء العم”؛ فوفقًا لفوكوياما، كانت المجتمعات في وقت سابق متماسكة جدًا، مما خلق مجموعات القرابة التي تخدم مصالح المجموعات التي تخصها على حساب أي شخص آخر، وبصوة عقلانية، وقف هذا الأمر في وجه  إنشاء الدولة. وإذا كان للمرء أن يأخذ تاريخ الأردن من عهد الانتداب البريطاني حتى الآن كمثال، فما هذا التاريخ إلا عبارة عن محاولات لتحقيق الوحدة، وكسر العزلة والممارسات العشائرية، التي لا بد من الإشارة إلى تغلغلها في أولئك الذين لا ينتمون لأصول عشائرية من الأساس. و في الواقع، إن تاريخ بناء الدولة في الأردن ما هو إلا محاولة لتحطيم “طغيان أبناء العم” هذا، على الرغم من أنه لم ينجح إلا في اعتماده  وتكييفه في معظمه ليصبح أمرًا شبه قابل للإدارة من خلال خدمة مصالحه.

ويرتبط “طغيان أبناء العم” هذا إلى حد كبير بالمفهوم الثاني، أي الدولة الحديثة التي قصدها “فيبر”. وبأبسط العبارات، يمكن تلخيص هذا النوع من الدول بدولة تقوم على التجرّد (أي اللاشخصنة) والجدارة. ويمكن رؤية هذا النوع من البنية، وبعض جوانبها، في الأمثلة الحديثة وتلك التي يعود تاريخها إلى البيروقراطية التي أنشأتها سلالة “تشو” في الصين والتي حكمت في الفترة ما بين (256-1046 قبل الميلاد). وهكذا، يصبح من الواضح، وعلى الفور، تعارُض مصطلحات “مجموعات القرابة” و”التجرّد والجدارة” مع بعضها البعض مباشرة. وعلاوة على ذلك، وكجزء من هذه الدولة، فإن هناك بيروقراطية تتسم باللاشخصنة وهي غير مسيّسة وقائمة على الجدارة. ومع أنّ المرء قد يزعم أن ليس لدينا سوى القليل من أشكال السياسة أو الجماعات السياسية في الأردن، إلا أن الكثيرين ناقشوا كون مؤسسة “القبيلة” حزبًا سياسيًا بديلًا في كثير من الأحيان، وبالتالي فإن المؤسسات والممارسات القبلية كذلك، والتي أصبحت أيضًا أسلوب عمل تتبعه الجهات الفاعلة غير القبلية، تقوم بتسييس البيروقراطية والقضاء على أي فرصة للعمل بأسلوب غير شخصي مستند إلى الجدارة.

وفي حال لم يكن لدينا دولة حديثة، فما الذي نمتلكه إذن؟ مرة أخرى، أشير إلى فوكوياما، إذ أن لدينا دولة جديدة موروثة كما حددها في نصه الرائع المسمى النظام السياسي والانحطاط السياسي، حيث يكون لمثل هذا الشكل من الحكم “الشكل الخارجي للدولة، مع وجود دستور، …، ورئيس وزراء، ونظام قانوني، وادعاءات اللاشخصنة، إلا أن التشغيل الفعلي للحكومة هو في جوهره مسألة تقاسم موارد الدولة مع الأصدقاء والعائلة” (فوكوياما , 2014: 287-288). وفي حالة الأردن، حدث هذا التقاسم لموارد الدولة في البداية، ثم تم الحفاظ عليه، كوسيلة لضمان ولاء شخصيات محددة بسبب ترتيبها العشائري، وسيطرتها على هذه العشائر، والنخبة من التجار.

إننا نرى في ذلك موضوعًا يتكرر حدوثه طوال تاريخ الأمة، في كل شيء من الزراعة، وتوزيع المياه والأراضي، والعمالة في جهاز الأمن، والأهم من ذلك العمالة في القطاع العام (أي البيروقراطية). استلزمت الأحلاف العشائرية المتماسكة والمتناثرة خيارًا مشتركًا من أجل وجود الأردن، وخلال هذه العمليات، خلقت عقدًا اجتماعيًا مكلفًا مدعمًّا بممارسات الوراثة الجديدة  والريعية. وقد تم الحفاظ على توفير العمالة العامة وموارد الدولة لفئات محددة، والتي ما هي في معظمها إلا مجموعات حصرية قائمة على القرابة، من خلال مؤسسات مرنة مثل نظام “الواسطة”. لقد ثبت أن الحفاظ على مثل هذه الممارسات أمر مكلف وضار، إذ لم يقم التوظيف الحكومي على الجدارة، وبالتالي فما هو إلا ضريبة فعلية.

وإذن، نصل الآن إلى لب القضية، إذ نحافظ على عقد اجتماعي مشوه وغير مستدام. ومع ذلك، وكحال أي عقد اجتماعي، فإن له أنصاره المتحمسين، وبالتالي، يتوجب علينا جميعًا دفع الثمن. إن هذا العقد الاجتماعي ما هو إلا مؤسسة، ونظام “الواسطة” هو مؤسسة، والبيروقراطية الشخصية وغير القائمة على الجدارة هي مؤسسة، والقيم الأسرية والعشائرية هي مؤسسة كذلك. ولا يرث رؤساء الوزراء هؤلاء بيروقراطية سيئة فحسب، بل وعددًا لا يحصى  أيضًا من المؤسسات التي تعرقل محاولات إنشاء دولة حديثة وتشلّها كذلك. ولا يمكن لنا الإصلاح دون أن نكون خاسرين؛ فالخاسرون والرابحون هم الثوابت في أي تغيير اجتماعي، أو أي تغيير بشكل عام، كما لا يمكننا المطالبة بفوائد الدولة الحديثة دون تكييف جميع مؤسساتنا للتوافق مع مبادئها.

وللتدمير الخلّاق خاسروه أيضًا، ولكنه يأتي مع نتيجة ذات خير أعظم، وتقدُّم، وقفزة إلى الأمام تقريبًا. لا يمكننا لوم رؤساء الوزراء، إذ يجب أن ننظر إلى المؤسسات الأساسية، وهي المؤسسات التي تخلقها سلوكياتنا وقيمنا. عندما لا أدفع ضرائبي يترتب على شخص آخر واجب دفعها، وعند استغلال اتصال لتوظيف مرشح ، أفضل أو أسوأ، يبقى مرشح آخر  دون توظيف، وعندما توظف الحكومة مزيدًا من الأشخاص، ترتفع الضرائب تبعًا لذلك. وللعمل على تطوير  البيروقراطية بسرعة، فإما أن نتخلص من الموظفين غير اللازمين، والذين هم في نهاية المطاف أرباب أسر يعولونها، أو أن نحفز تحسين الأداء وغرس ممارسات التوظيف القائمة على الجدارة.

الأمر الواضح في كل هذا هو أنه سيكون هناك خاسرون، وأنا وأنت قد نكون من بينهم. ويمكن أن يكونوا فاعلين عشائريين، ممن استفادوا من مؤسسات الإرث الجديد، كما يمكن أن يكونوا موظفين حكوميين، وينص أي تغيير اجتماعي أو مؤسسي على وجود خاسرين. ينبغي تكييف المؤسسات الأساسية المتأصلة في الثقافة أو تغييرها لتيسير إنشاء دولة حديثة. وللتخلص من الكثير من أوجه القصور والمؤسسات غير الفعالة، يجب أن نتخلى عن “طغيان أبناء العمومة”، وأن نتخلص من بعض قيمنا ومعتقداتنا المنهكة. وعلى الرغم من أنه يمكن الإشارة إلى الضغوط الخارجية، فقد تبين في نهاية المطاف قصور مؤسساتنا جراء ما حل بالمنطقة وما تلاه من تموجات اللجوء في السنوات الأخيرة ثم جائحة كوفيد-19. ما كان شقًا قد صار هوة، ولم يعد بإمكاننا توجيه أصابع الاتهام إلى الشخصيات والحكومة. إن النظام مليء بالعيوب بشكل صارخ، وهذا النظام أنشأته مؤسسات لا تعد ولا تحصى، وأفعالنا وسلوكياتنا هي ما تخلق هذه المؤسسات. ربما هناك حاجة إلى القليل من التأمل الهادئ، وربما لا ينبغي لنا أن نلقي باللوم كله على “شخص ما”، وتحمّل جزء من هذا اللوم بدلًا من ذلك.