الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

يهود ضد الصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عوفر كسيف، نائب إسرائيلي من اليسار يمثل “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة”، تعرض مؤخرًا لمضايقات شديدة وصلت حد التصويت على عزله من البرلمان، بعد تأييده العلني لاتهام دولة جنوب إفريقيا لإسرائيل بممارسة جرائم الإبادة الجماعية في غزة.
لا يخفي النائب اليهودي كسيف الذي هو في الآن نفسه أستاذ مرموق للفلسفة السياسية عداءه الصريح للصهيونية التي يرى فيها نزعة عنصرية تقوم على الاستعلائية اليهودية والنزعة القومية الفاشية، ولا يمكن من ثم وصف إسرائيل بالدولة الديمقراطية المدنية.

ورد في العريضة التي وقعها كسيف :”إن العناصر التي تمخضت عن المحاكمة قاسية وموثوقة، فإسرائيل تأخذ بالفعل إجراءات منتظمة ومعمقة تهدف إلى القضاء على سكان غزة، وتجويعهم وإساءة معاملتهم وتهجيرهم. إنها تقيم سياسة محو لإمكانات الحياة، تفضي إلى الإبادة. إن إسرائيل تقتل بانتظام شرائح واسعة من السكان، ومن الجامعيين من الصف الأول، ومن الكتاب والأطباء، والعاملين في المجال الصحي، والصحافيين والمواطنين العاديين.”.

وقد علق كسيف على توقيعه على هذه العريضة بأنها تندرج في نضاله الطويل من أجل بناء مجتمع أخلاقي في إسرائيل، بالوقوف ضد الحكومة المتطرفة التي تتبنى سياسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
لا يتردد كسيف في وصف الائتلاف الحاكم في تل أبيب بأنه “نازي” بالمعنى الحقيقي للعبارة، فبالنسبة له، تنطبق عليه التحديدات الأكاديمية العلمية للنازية من حيث هي “نزعة ترفض حقوق الأفراد، وتأبى الديمقراطية وتضع الأمة في مكان أعلى من كل شيء ، كما تستخدم الطابع العسكري والعنف أداة للعمل السياسي”.

لم يعد صوت اليسار المعادي للصهيونية قويًا في إسرائيل التي تزايد فيها نفوذ اليمين المتطرف. ولذا، فإن مواقف كسيف الشجاعة تشكل اليوم حالة استثنائية في الشارع الإسرائيلي. إنها تذكر بمواقف المحامية الألمانية-الإسرائيلية فيليتسيا لنغر المتوفاة سنة 2018، وهي قانونية يسارية عرفت بدفاعها عن حقوق الشعب الفلسطيني ومرافعاتها عن المعتقلين الفلسطينيين في المحاكم العسكرية الإسرائيلية.

كتب عنها الصحافي الإسرائيلي ميكائيل سفارد في كتابه “الجدار والباب: إسرائيل وفلسطين والمعركة القانونية من أجل حقوق الإنسان”، مبينًا كيف أنها وقفت ضد استمرار جرائم الإبادة النازية في فلسطين على يد ضحايا النازية. ومن هنا أصبحت محامية الفلسطينيين في ظل الاحتلال والأنظمة القانونية العسكرية الاستثنائية. بيد أنها اضطرت سنة 1990 إلى النزوح إلى ألمانيا وأغلقت مكتبها في القدس، مصرحة لصحيفة جرزالوم بوست أنه”لم يعد بإمكانها أن تظل ورقة عنب لهذا النظام”. لقد وصلت إلى قناعة أنها غدت عاجزة عن ممارسة عملها القانوني في المحاكم الإسرائيلية.

عادت إلى إسرائيل بعد اتفاقيات أوسلو التي اعتبرتها خديعة كبرى نجم عنها تدمير حياة الفلسطينيين باسم سلام زائف، ومضاعفة الاستيطان في المناطق المحتلة خلال حكم إسحاق رابين.
كتبت فينيسيا لنغر عدة كتب وثقت فيها شهادتها على جرائم الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان الصهيوني، من بينها “بعيوني الخاصة” و”هؤلاء إخوتي” و “حيث الكراهية لا تعرف حدودًا” و”جسر الأحلام”، وغيرها.
لا تختلف كتابابات فينيسيا لنغر عن أفكار ومواقف كسيف الذي لا يزال واسع النشاط في الحقل السياسي والقانوني، رغم المضايقات الواسعة التي يتعرض لها.

ولا شك في أن أهم الباحثين الإسرائيليين الذين انتقدوا الأيديولوجيا الصهيونية هو عالم الكيمياء إسرائيل شاحاك الذي عمل أستاذًا في الجامعة العبرية بالقدس وترأس رابطة حقوق الإنسان والمدنيين في إسرائيل، وتوفي سنة 2001.
تخصص شاحاك في الجذور الدينية للأصولية اليهودية المتطرفة، في عدة كتب أبرزها “الديانة وتاريخ اليهود: وطأة 3000 عام” و”الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود” و”الأصولية اليهودية في إسرائيل”.
في هذه الكتب وغيرها، كشف شاحاك عن أنماط توظيف المفاهيم والمعتقدات اليهودية في الأيديولوجيا الصهيونية من أجل ممارسة سياسات التمييز العنصري والتهجير القسري ضد الفلسطينيين.

في هذا الباب، يبين شاحاك أن الرموز المقدسة تتحول في الأيديولوجيا الصهيونية إلى سياسات مادية إجرائية، كما هو الشأن مثلًا مع عبارة “أورشليم” التي تحيل أصلًا في النسق الديني اليهودي إلى سلطة الإله المطلقة على الأرض وقد حولت إلى مدينة عادية هي العاصمة المعلنة للدولة الإسرائيلية لها خصائص جغرافية مادية محضة .فمن منظور الفكرة الصهيونية، لا تعتبر الأرض وطنية لكونها إسرائيلية وإنما لكونها يهودية، ولذا فإن المناطق التي يسكن فيها غير اليهود توسم بأنها “غير مطهرة”. ومن هنا ندرك منع غير اليهود من الإقامة في العديد من الأقاليم والأحياء التي أصبحت ملكًا لليهود وحدهم. فالشرائع التلمودية تنتزع من سياقها الظرفي لكي توظف في إقصاء وقمع غير اليهود في دولة تدعي زورًا أنها ديمقراطية وحداثية في حين تحكمها أيديولوجيا أصولية متشددة لا تنتمي للعصر الحاضر.

ويخلص شاحاك من تحليله المعمق للخلفيات العقدية والأيديولوجية لسياسات التمييز العنصري في إسرائيل إلى “أن إسرائيل، من حيث كونها دولة يهودية لا تشكل فقط خطرًا على نفسها وعلى سكانها، بل هي خطر على كل اليهود وعلى كل شعوب ودول الشرق الأوسط وما وراءه”.
ما يميز أطروحة شاحاك هو كونها تفكك السردية الصهيونية التقليدية في كون هذه الأيديولوجيا حداثية علمانية نتجت عنها حالة ديمقراطية فريدة في المنطقة. ما يبينه شاحاك هو أن المرجعية الدينية للدولة ليست مجرد استناد رمزي وخلفية ثقافية عامة، بل إن إسرائيل وظفت العقائد والشرائع اليهودية التي تبلورت في مرحلة “التيه” و”الشتات” خلال العصور الوسيطة إلى آليات ونظم قانونية بالمعنى الحديث للعبارة، تستخدم لأغراض الفصل والتمييز والتهجير، بما يجعل من الصهيونية معتقدًا أصوليًا متشددًا أكثر من كونها أيديولوجيا حداثية مدنية.

خلاصة الأمر، أن العديد من الأقلام اليهودية اكتشفت أن توظيف الدين في الشأن السياسي في إسرائيل، حولها إلى حالة ثيوقراطية مغلقة ومتطرفة، ولذا فإن الانتقال الراهن من الصهيونية الاشتراكية والعلمانية إلى الصهيونية الدينية المتشددة هو انتقال عادي وتطور طبيعي داخل الخطاب الصهيوني.