الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المسألة اليهودية في الفكر الغربي(6)
جيل دلوز والمأساة الفلسطينية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لا جدل في أن جيل دلوز من أهم فلاسفة فرنسا والغرب في العصور الحديثة، وقد أصدر أعمالاً مهمة تركت أثراً واسعاً في التفكير الفلسفي، من بينها قراءاته المبتكرة لسبينوزا، ونيتشه، وكانط، وهيوم وبرغسون، وكتابه المرجعي حول مفهوم الفلسفة الذي كتبه على غرار كتب أخرى مع فيليكس غواتاري.

وقد وصل حجم الاهتمام به إلى العبارة المشهورة التي قالها عنه صديقه الفيلسوف المعروف ميشال فوكو: “ربما يكون القرن دلوزياً”.

لا تهمنا حالياً  هذه الجوانب الفلسفية المحورية في فكر دلوز الذي توفي سنة 1955 عن عمر سبعين سنة، وإنما أردنا الرجوع إلى النصوص القليلة التي كتب حول الموضوع الفلسطيني ما بين سنة 1982 وسنة 1988.

المعروف أن دلوز كان شديد التعاطف مع الشعب الفلسطيني، وعلى علاقة وثيقة ببعض القيادات والكتاب والسياسيين الفلسطينيين،  مثل المؤرخ والشاعر إلياس صنبر، والسفيرة الأديبة ليلى شهيد والشاعر الكبير محمود درويش.

في هذا السياق نشير إلى ثلاثة نصوص أساسية هي: حوار إلياس صنبر مع دلوز بعنوان “هنود فلسطين”، وقد نشر في صحيفة “ليبراسيون” الباريسية (8-9 أيار/مايو 1982)، ومقالة “عظمة ياسر عرفات” المنشورة في أيلول/سبتمبر 1983 في “مجلة الدراسات الفلسطينية” (الطبعة الفرنسية)، ومقالة بعنوان “الأحجار” من وحي الانتفاضة الأولى، نشرت في مجلة “الكرمل” سنة 1988.

في حواره مع صنبر، يتحدث دلوز عن نمط الاستعمار الاستيطاني في فلسطين الذي يشبه تماماً مأساة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، بما يفسر خصوصية العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

الفلسطينيون بالنسبة له ليسوا في وضعية استعمارية تقليدية، لأن غرض الاحتلال الإسرائيلي  هو تفريغ الأرض منهم وتهجيرهم من بلادهم. إنه نمط من الاحتلال يختلف عن الحركية الاستعمارية المألوفة التي كانت تحتفظ بالشعوب في أرضها لتمارس عليها صنوف الاستغلال والهيمنة،  بينما في الحالة الفلسطينية يتعلق الأمر بإخراج الشعب من وطنه، واستقدام غرباء محله يعمرون الأرض ويحتلون الفراغات التي فرضت بالقوة والعنف.

في هذا الباب يقول دلوز: “لم تخف يوماً  إسرائيل منذ البداية أن هدفها هو خلق الفراغ في الأراضي الفلسطينية.. التصرف وكأن الأرض الفلسطينية كانت فارغة، مهيأة دوماً للصهاينة… إنه ضرب من الإبادة ولكنه يتميز بكون الإفناء الطبيعي خاضعاً للتفريغ الجغرافي”.

وهكذا يتم منذ البداية رفض الوجود الفلسطيني وإنكار القضية الفلسطينية،  إذ الأمر يتعلق فقط ببعض العرب الذين عليهم أن يذوبوا في المجتمعات والدول العربية الأخرى، ولا مكان لهم في إسرائيل الكبرى.

في النص الجميل الذي كتب بعد أحداث صبرا وشاتيلا بعنوان “عظمة ياسر عرفات”، ذهب دلوز  بوضوح إلى أن الذين ينكرون حقيقة المحرقة الفلسطينية، لا يدركون أن الشعب الفلسطيني تعرض لما هو أكثر من محنة اليهود في أوروبا. ويشير دلوز هنا إلى “الإرهاب الصهيوني” الذي لم يستهدف الإنجليز وحدهم، بل تسبب في جرائم القتل والتطهير العرقي في القرى الفلسطينية كما هو شأن عصابات “الأرغون” التي دمرت قرية دير ياسين وأبادت أهلها. ويخلص دولوز إلى القول: “كان المقصود أن ينكر ليس فقط حق وجود الشعب الفلسطيني، بل إنكار وجوده أصلاً”.

كان دلوز يتحدث وقتها عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما تلاه من مذابح مريعة في المخيمات الفلسطينية، ثم خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وقد وجد في الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رمزاً للقضية الفلسطينية العادلة على غرار ما اكتسبه زعيم التحرر الفرنسي الجنرال ديغول من رمزية سامية خلال الاحتلال النازي لبلاده.

التحول الكبير الذي أحدثته نصوص دلوز وقتها، هو الحديث لأول مرة في الكتابات الغربية عن “المحرقة الفلسطينية”  كوجه آخر للإبادة اليهودية في أوروبا،  بما يحتم على الضمير الإنساني التعاطف مع مأساة الشعب الفلسطيني الذي يدفع ثمن ظلم تاريخي لا ناقة له فيه ولا جمل.

كانت نصوص دلوز وقتها شجاعة وجريئة وغير مسبوقة في الساحة الفكرية الفرنسية، وقد جرت عليه نقمة قطاع واسع من المشهد الثقافي من بينها من تسموا بالفلاسفة الجدد وهم في أغلبهم من المتعاطفين مع إسرائيل، وقد قال في حقهم دلوز إنهم ليسوا فلاسفة ولا جدداً.

في مقالة “الأحجار” التي كتبها دلوز من وحي انتفاضة الحجارة سنة 1987 ونشرت بالعربية في مجلة “الكرمل” التي كان يصدرها الشاعر البارز محمود درويش ردة فعل جريئة وصريحة ضد الاحتلال الإسرائيلي وتحية قوية لأطفال الحجارة.

كتب دلوز في هذا النص الجميل: “إن الحجارة التي رميت أتت من الداخل، أتت من لدن الشعب الفلسطيني، للتذكير بأنه في هذا الصقع الضئيل من العالم قد قلبت المديونية. ما يرميه الفلسطينيون هو حجارهم الخاصة، الأحجار الحية لوطنهم”.

لم يكن تعاطف دلوز مع الشعب الفلسطيني غريباً بالنسبة لمن اطلع على أعماله الفلسفية الغزيرة التي تمحورت حول رفض السلطة القمعية التي تستخدم المعرفة، والرغبة والعقلانية أدوات للتحكم والهيمنة  والسيطرة. فبالنسبة له، لا يمكن فصل القضية الفلسطينية عن طبيعة النظام الاستعماري الأوروبي الذي تشكل في العصور الحديثة وجعل من الأنساق الخطابية والقولية ميكانيزمات للتحكم القسري، بما يفسر الأوهام الأيديولوجية المرتبطة بالفكرة الصهيونية التي هي في نهاية المطاف مجرد علمنة قوية لأساطير لها مسحة دينية مقدسة (الوعد والاصطفاء). ولقد انتقد دلوز المفكرين الحداثيين والليبراليين في وقوفهم مع هذا المشروع الميتولوجي الذي يتناقض بداهة مع القيم التنويرية والإنسانية للغرب المعاصر.

رغم الحضور  الكبير لدلوز  في الحقل الفلسفي الفرنسي والغربي إجمالاً، لم يكن لنصوصه المهمة حول القضية الفلسطينية تأثير نوعي، ولم تطور الحدوس والملاحظات الثاقبة التي بلورها في الكتابات السياسية والإعلامية.  بل إن اتجاهاً واسعاً (يرجع إلى الفيلسوف فلادمير جانكلفيتش  ذهب إلى حد المماهاة بين نقد الصهيونية والعداء للسامية في نكوص واضح عن أفكار دلوز الرصينة حول الصهيونية من حيث هي عقيدة عنصرية تفضي للعنف والإبادة الجماعية.