نظّم مركز النهضة الاستراتيجي، التابع لمنظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض)، يوم الثلاثاء 19 آب/ أغسطس 2025، ندوة رقمية بعنوان :”إعادة تصوّر الحوكمة التشاركية في المنطقة العربية: الممارسات المحلية والدروس المقارنة من ولاية كاريني”.
هدفت الندوة إلى تعزيز فهم جديد لمفهوم الحوكمة في السياق المعقّد والصعب للمنطقة العربية، حيث سلّطت الصراعات الممتدة، وضعف المؤسسات، وتراجع ثقة المواطنين الضوء على حدود النُهج الفوقية في إشراك المجتمع المدني. وفي المقابل، أصبحت النُهج المحلية التشاركية -التي تركّز على بناء الثقة المدنية، وإدماج الشباب والنساء، وتعزيز شبكات القرب التي تربط بين الدولة والمجتمع- ركيزة أساسية في إعادة بناء الشرعية والمرونة في مختلف أنحاء المنطقة.
وفي هذا السياق، شكّلت تجربة ولاية كاريني في ميانمار عدسة مقارنة مهمّة؛ إذ قدّمت هياكل الحوكمة المحلية الناشئة في ظل النزاع وانهيار المؤسسات هناك، دروسًا قيّمة حول اللامركزية، والمساءلة، والشرعية المستندة إلى المجتمع المحلي، وهي دروس تتقاطع مع السياقات العربية التي تشهد التشظي والانتقال.
وجمع المركز أربعة متحدثين بارزين لمناقشة هذه القضايا عبر جلستين، بما يربط بين نقاشات الحوكمة في المنطقة العربية والخبرات المقارنة عالميًا. فكانت الجلسة الأولى بعنوان: “الحوكمة من القاعدة في البيئات المتأثرة بالنزاع -تجربة ولاية كاريني”، وشارك فيها: خون بيدو، نائب رئيس المجلس التنفيذي المؤقت لولاية كاريني، خلدون باكحيل، مستشار أول والمنسق القُطري باليمن لدى مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، ونائب وزير الإدارة الداخلية الأسبق في اليمن.
أما الجلسة الثانية، فجاءت بعنوان: “تصوّر الحوكمة في المنطقة العربية -التحديات والبدائل والنماذج الناشئة”، وشارك فيها: مهند عدنان، المدير التنفيذي لمجموعة رؤيا للتنمية -العراق، وديمة أبو ذياب، مديرة برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في الأردن.
بدوره، انطلق تشارلز بيتري، مستشار أول في منظمة النهضة العربية (أرض) والمساعد السابق للأمين العام للأمم المتحدة، الذي أدار الجلسة الأولى مع المشاركين، “من فرضية أساسية مفادها أنّه عند انهيار الأنظمة المركزية القوية –والتي غالبًا ما تكون قمعية- فإن الفراغ الناتج عن ذلك يفتح المجال أمام نشوء هياكل حوكمة محلية”.. أما محاولة إعادة تأسيس سلطة مركزية -وهو نهج قائم على النموذج “الويستفالي” للحوكمة- فتغدو شبه مستحيلة على المدى القصير والمتوسط. وتُظهر أمثلة الصومال، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وليبيا، واليمن وميانمار هذه الحقيقة بوضوح. ومن هنا تبرز الحاجة إلى الاعتراف بوجود هذه الهياكل المحلية من الحوكمة وفهم الدور الذي يمكن أن تؤديه في إعادة بناء دولة فاعلة.
من جانبه، قدّم خون بيدو تجربته المميزة في ولاية كاريني، مستعرضًا إطارها الفيدرالي القائم على النهج التصاعدي (من القاعدة إلى القمة)، والذي يعطي الأولوية لبناء المؤسسات، وتفويض السلطات للإدارات المحلية، وتعزيز ثقة المجتمع المحلي عبر الشفافية والمساءلة في البُنى الإدارية.
أما خلدون باكحيل، فقد توسّع في هذه المفاهيم وأسقطها على السياق اليمني، موضحًا الطريقة التي مهّد بها التشظي، وجوهر الصراع نفسه، الأرضية أمام مبادرات الاستقرار المحلي، والدعوة إلى هيكل أكثر تمثيلًا وفيدرالية.
في هذا الصدد، أثيرت نقاشات عديدة بين المشاركين حول عدة قضايا مهمة كالتغيّر المناخي، وانعدام الأمن الغذائي، ودور المساعدات الخارجية. وفي معرض الرد على سؤال حول دور المساعدات الخارجية، عرض بيدو تجربة ولاية كاريني في محاولة إنشاء صندوق ائتماني إقليمي متعدد المانحين. في المقابل، شدّد بَكاهيل على ضرورة أن يمتنع المجتمع الدولي عن التدخل في مفاوضات تقاسم السلطة السياسية في اليمن، مؤكدًا أن التركيز يجب أن ينصب على إحياء الإطار الفيدرالي الذي جرى الاتفاق عليه في السابق، والذي يمكن أن يضمن مستويات من الاستقرار.
وأضاف بَكاهيل أنه لا بد من معالجة قضية التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي من خلال مقاربة شمولية تشارك فيها منظمات المجتمع المدني والشباب والنساء، على أن تُصمم استراتيجيات التخفيف المحلية لتوفير فرص حقيقية للعمل المناخي.
أما الجلسة الثانية التي أدارتها مريم أبو سمرة، منسقة مركز النهضة الاستراتيجي، فقد توسّعت في المفاهيم التي طُرحت في الجلسة الأولى، وركّزت على تجارب الحوكمة التي تميّز السياقات المختلفة في المنطقة العربية. وكان من الأهمية بمكان التأكيد على النهج التصاعدي (من القاعدة إلى القمة)، مع التركيز على مشاركة الشباب، وذوي الإعاقة، والنساء في تحديد الفرص المتاحة.
فيما استعرض مهند عدنان تجربة العراق، باعتباره بلدًا عاش عقودًا من النزاع، شهد خلالها صراعًا على السلطة بين البرلمان الفيدرالي من جهة، والمجالس المحلية والإقليمية من جهة أخرى. وأوضح أن الخشية من استحواذ المجالس المحلية على سلطات مفرطة من البرلمان الفيدرالي -أي صراع الصلاحيات- أدت في النهاية إلى حلّ المجالس المحلية. وأكد عدنان على الدور الذي لعبته الاحتجاجات في تمكين الشباب من الحصول على اعتراف أكبر من الحكومة، وهو أمر لم تحققه النساء وذوو الإعاقة بعد.
من جهتها، ربطت ديمة أبو ذياب النقاش بالسياق الأردني المحلي، حيث يعمل برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية على إشراك المواطنين في صياغة السياسات التي تتيح مستقبلًا حضريًا أفضل. وفي سياق متصل بما عرضه عدنان، شرحت أبو ذياب السبل التي هدفت من خلالها مبادرات إبداعية مثل مشروع تخطيط حي جبل عمّان بالشراكة مع منظمة النهضة العربية (أرض)، إلى تشجيع مشاركة الشباب وتعزيز التخطيط المجتمعي.
وعند فتح باب النقاش مع المشاركين، شدّد كل من أبو ذياب وعدنان على الحاجة العاجلة إلى مبادرات العمل المناخي، خاصة تلك المتعلقة بـالوقاية من الفيضانات المفاجئة في الأردن، وآليات معالجة المياه في العراق.
ختامًا؛ جمعت هذه الندوة نخبة من أصحاب الخبرة من سياقات متنوعة، لاستكشاف أهمية وإمكانات الحوكمة المحلية في التصدي للتحديات التي تواجه المنطقة العربية والعالم ككل. وقد طُرحت تساؤلات محورية مثل مشاركة الشباب والنساء، وكذلك تهديد التغيّر المناخي.
وخلافًا للتصورات التقليدية، جرى التأكيد على احتمال أن يشكّل النزاع يمكن الأساس الضروري لظهور هياكل حوكمة محلية فاعلة. وإن قبول هذه الحقيقة وبناء استراتيجيات تُدمج الحوكمة المحلية في صُلبها، يمكن أن يُسهم في تحقيق الاستقرار المستقبلي في مواجهة عالم دائم التغيّر.