الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب وتجربة النهوض والتحديث في تركيا المعاصرة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

رغم التداخل التاريخي والحضاري الكثيف بين العالم العربي وتركيا، ما تزال تجربة التحديث والنهوض في هذا البلد الذي شكل لمدة قرون قلب العالم العربي الإسلامي مجهولة إلى حد بعيد  لدى النخب العربية.

الصورة السائدة عن هذه التجربة تتمثل في كون الجمهورية التي أسسها أتاتورك على أنقاض الخلافة العثمانية، كرست انفصال تركيا عن محيطها الإسلامي، باعتماد العلمانية مسلكًا دستوريًا وسياسيًا، والارتماء في الغرب خيارًا جيوسياسيًا، ومرتكز هوية جديدة للبلاد.

وفق هذه الرؤية، لا رابط بين الإصلاحات العثمانية التي تمت في إطار مشروع تجديد الخلافة وإصلاحها، والمقاربة التحديثية العلمانية اللاحقة المتأثرة باللائكية الفرنسية ونمط الحياة الأوروبي.

بيد أن الدراسات العلمية الدقيقة التي صدرت في السنوات الأخيرة كشفت عن قصور وخطأ هذا التصور السائد. ومن أهم هذه الدراسات أعمال عالم الاجتماع والسياسة التركي شريف ماردين (توفي 2018)، الذي عالج مسار التحديث والنهوض في تركيا منذ عصر التتظيمات إلى الحالة الراهنة.

ما يبيّنه ماردين هو وضعية  الاستمرارية بين الدولة الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية الجديدة من حيث البنيات المؤسسية، والسياسات الدينية والثقافية.

لم تكن الدولة العثمانية على شكل الدول السلطانية التي حكمت العالم الإسلامي في العصور الوسطى، من حيث نظام الشرعية وعلاقة السلطة الحاكمة بالمجتمع. فلئن كانت لم تعرف الفصل بين الدين والدولة على الطريقة الغربية وظلت محكومة إجمالًا بالمرجعية الدينية، وكان للعلماء ومشايخ الدين دور أساسي فيها، إلا أن الدائرة السياسية حافظت على استقلال فعلي عن الحقل الديني.

كان الإمبراطور (الذي أصبح يحمل لقب الخليفة منذ 1517) الزعيم الروحي للأمة، لكنه كان يمارس سلطة زمنية فعلية وإن استخدمت الدين أداة للشرعية. كما كان العلماء جزءًا من تركيبة الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة، وليست لهم استقلالية حقيقية عن السلطة الحاكمة. ومن هنا، اعتبر ماردين أن الدولة العثمانية تقوم على شرعية مزدوجة تتمثل في التقليد الإمبراطوري والعسكري من جهة، والإسلام من جهة أخرى. وقد انعكست هذه الشرعية المزدوجة على البناء القانوني للدولة الذي كان مزيجًا من أحكام الشريعة والتشريعات العمومية التي تضعها الدولة، فضلًا عن الخصوصيات التنظيمية الممنوحة للأقليات الدينية التي كانت تشكّل نسبة معتبرة من سكان الإمبراطورية.

ماردين يخلص من هذه الاعتبارات التاريخية، إلى أن النظام العلماني ليس جديدًا في تركيا،  ولا هو من إبداع مصطفى كمال أتاتورك، بل يرجع للعهد الإمبراطوري حيث شكل الدين محور الشرعية لكن تم احتواؤه في هيكلية الدولة بحيث يكون عنصرًا داخليًا من عناصر تشكلها، لا مبدأ متعاليًا عليها.

ومع تأسيس الدولة الحديثة سنة 1923، لم يقم أتاتورك بالقطيعة مع هذا النموذج التاريخي، لكنه أخرجه وفق الصيغ القومية الحداثية الجديدة. ولذا، لا يمكن النظر إلى العلمانية التركية على غرار التجارب اللائكية في أوروبا التي كرست الفصل المؤسسي بين الدين والدولة، بل ما حدث هو العكس، سيطرة الدولة الكلية على الحقل الديني وحرصها على قولبته وصياغته، وفق مصالحها وتوجهاتها.

لقد كانت القرارات الكبرى التي أخذها أتاتورك مدفوعة بهذا المنطق،  سواء تعلق الأمر بإلغاء الخلافة سنة 1924 والقضاء على النظام القضائي والتعليمي الديني، واعتماد الحرف اللاتيني والقانون المدني السويسري. لقد كان غرضه هو إخضاع الدين للدولة توطيدًا لمقتضيات السيادة الوطنية والهوية الجماعية المشتركة، وليس الفصل بين الحقلين الديني والسياسي. ولذا، يمكن أن نطلق على هذا النموذج التركي تسمية “التحكم في ديانة الدولة”.

ولقد عرف ماردين بنظريته حول المركز والأطراف في ضبط علاقة الدين بالسياسة في الدولة التركية الحديثة، من خلال إبراز الفواصل بين قلب السلطة المتشكل من النظام السياسي والنخب البيروقراطية والعسكرية والقضائية، والهوامش المتمثلة في المجتمع الأهلي والطوائف الدينية والطرقية والاجتماعية.

وفي حين دأب المركز على فرض سياساته الدولاتية من الأعلى بالاعتماد على المؤسستين العسكرية والقضائية، احتفظت الأطراف بالتقاليد المحافظة، والأساليب الدينية العتيقة وأشكال العيش القديمة الموروثة.

إن هذا الانزياح بين المركز والأطراف هو الذي يفسر ديناميكية الاستقطاب الدائم داخل المشهد السياسي الذي يعرف توترًا ثابتًا بين المشروعين العلماني التحديثي والتقليدي المحافظ، رغم الإجماع الواسع حول التركة الكمالية التي هي قاعدة الجمهورية التركية الحديثة.

يمكن أن نقدم من المنظور العربي ثلاث ملاحظات أساسية على أطروحة شريف ماردين:

  • أولًا: لا شك في أن تركيا نجحت في ما فشلت فيه البلدان العربية من تأسيس دولة وطنية، صلبة المرتكزات المؤسسية والقاعدة الاجتماعية. ومع أن تأسيس هذه الدولة واكبته مصاعب داخلية عديدة، في مقدمتها ضبط النسيج الأهلي على خلفية التعددية الدينية والقومية الموروثة عن الحالة الإمبراطورية، إلا أن أتاتورك استطاع الوقوف ضد كل مخططات تفكيك الدولة وتمزيق أوصالها إلى حد الصراع الحاد مع القوى الأوروبية التي تقاسمت تركة الإمبراطورية المنهارة. إنه الهدف الذي فشلت في إنجازه النخب العثمانية العربية التي قادت حركة النهضة القومية في بلاد الشام والهلال الخصيب.
  • ثانيًا: مهما كان التحفظ على سياسات التغريب واستنساخ النموذج الأوروبي على الطريقة التركية، إلا أنه لا سبيل لإنكار مكاسب التحديث التنموي والاقتصادي والصناعي التي حوّلت تركيا إلى قطب دولي فاعل، على عكس تجارب أغلب البلدان العربية التي انساقت وراء أوهام الاشتراكية الاجتماعية والدولنة الشاملة.
  • ثالثًا: نحتاج إلى قراءة جديدة ومعمقة للتاريخ العثماني الذي يغطي حقبًا طويلة من تاريخنا المشترك مع تركيا. ومن المراجعات المطلوبة ما يتعلق بمؤسسة الخلافة التي ما تزال تيارات الإسلام السياسي مشدودة لها، رغم ما بيّنه ماردين من طابعها السياسي الدنيوي الذي حافظت عليه عمومًا الجمهورية العلمانية الحديثة. إن من طبيعة هذه المراجعات أن تفتح آفاقًا رحبة لنقاش مطلوب حول معايير الشرعية والبناء السياسي في مجتمعاتنا العربية.